عروبة الإخباري- تبدو جائزة «نوبل» بعد 116 سنة من انطلاقتها، أقل نخبويّة، ويرافقها أحياناً شيء من الهزل والاستهتار، واتهامات بتمحور الجائزة حول مركزية الغرب والحداثة والهيمنة الذكوريّة والنخبويّة الفائقة. وسقط بعض الاتهامات، ولكن، تظل الذكوريّة تهمة مستعصيّة. لم تفز سوى 48 امرأة بالجائزة التي منحت إلى 911 شخصاً ومنظمة. ومع الإشارة إلى أنّ النساء حقّقن ما عجز عنه الذكور بفوز ماري كوري بالجائزة مرتين عن علمين مختلفين، تبدو قلّة المتوجّات بالجائزة تعبيراً عن تمييز عالمي وتاريخي مافتئ مستمراً ضد النساء، بأكثر من كونه مقتصراً على النخبة السويديّة في «أكاديمية كارولينسكا» التي تمنح الجائزة.
ومع زلزال فوز مغني البوب الأميركي بوب ديلان (2016)، بدت الجائزة كأنها تعترف أخيراً بصعود ثقافة الجمهور المتلقي، بدل الإصرار على ثقافة النخب. كيف تتصرّف الآن بعد أن نقلت الـ «سوشال ميديا» ثقافة المتلقي إلى مستوى نوعيّ، وكرّستها كثقافة يتفاعل فيها التلقّي بصنع المحتوى؟ كيف تتصرّف بعدما تكرّس في المركز الحضاري الأميركي و(الغربي) المتقدم، أنّ ثقافة الجمهور هي صانعة لحظة العيش المعاصر، عبر الدور الذي لعبته الـ «سوشال ميديا» في فوز الرئيس دونالد ترامب، وصعود ثقافة شعبويّة متمازجة في بلدان أوروبيّة يفترض رسوخها في الحداثة وما بعدها؟
لعلّ سقوط ثقافة النخب التي رسمت عالم ما بعد الحرب العالميّة الثانية، هو الخيط المتين الذي يربط ظواهر صعود ثقافة المتلقّي من واشنطن إلى برلين مروراً بالطلاق البريطاني مع أوروبا، ومارين لوبن واليمين المتطرف في البلدان الإسكندنافيّة وغيرها. الأرجح أن «زلزال ديلان» مستمر، فهل لدى العرب من يوازي ديلان اليوم؟ أم أن نخب العرب يراهنون على فوز يكرّر إنجاز نجيب محفوظ؟ ماذا لو حدث العكس؟ ليس جزافاً أن توقّعات صحيفة «داغنز نيهايتر» الثقافيّة المرجعيّة توزّعت بين فوز نقيضٍ لديلان، أو فوز عالمثالثي كالكيني غوغي واتيونغو، لكتابته عن مآسي شعوب العالم الثالث التي تأتّت من الاستعمار الغربي. وتذكيراً، لم يفزْ سوى 4 كتاب أفارقة بتلك الجائزة.
في هذا النقاش، تنفتح مساحة للقول إنّ مشروع الحداثة (وما بعدها)، المستمر صعوداً منذ ما يزيد على خمسة قرون، يمثّل ذروة ما في مسار الحضارة الإنسانيّة التي تفلح الجائزة دوماً في إبراز تجذّرها فيها.
واستدراكاً، لا ينفي الأمر أنّ تناقضات طاحنة في قلب الحداثة الغربيّة، خصوصاً الاستعمار والهيمنة الغربيّة المتمازجين مع عنصريّة متشامخة، مستّ الجائزة غير مرّة. إذ تصلح المرّتان اللتان رُفِضَت فيها علناً وطواعيّة، دلالة على ذلك. في 1964، رفضها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر صاحب المدرسة الوجودية الناقدة بحدّة خطاب الحداثة الغربي. وكرر الأمر وزير الخارجيّة الفيتنامي لو دوك تو، الذي يصعب عدم قراءة رفضه الجائزة، من دون تذكّر الحرب الفيتناميّة وتوسّعها إلى دول الجوار، لتلاقي أيضاً إرث الاستعمار الأوروبي (الفرنسي خصوصاً) في ما كان يسمّى الهند الصينيّة.
يسهل تصفّح الالتباسات الكثيرة التي رافقت تلك الجائزة، خصوصاً في الآداب والسلام، على غرار ما حصل حين منحت لياسر عرفات وشمعون بيريز ومناحيم بيغين وأنور السادات وهنري كيسينجر وباراك أوباما وجون كيري، وامتداداً إلى ليخ فاليسا وآل غور و «هيئة المناخ»، ووصولاً إلى أونغ سو تشي التي تثير نقاشات حادة تسعّرها المأساة المستمرة لأقلية الـ «روهينغا» في ميانمار.
ومع زمن الإنترنت، ظهرت في أميركا جائزة تحاكي «نوبل»، تسمّى «إغ نوبل» Ig Nobel. ترفع شعاراً هو «لنجعل الناس يضحكون أولاً، ثم نحضّهم على التفكير». وهي تكرّم بحوثاً علميّة تمزج الضحك بالعلم، كصنع حقل مغناطيسي يستطيع رفع ضفدعة عن الأرض، ودراسة عن التشابه بين الماء وجسد القطة الذي يظهر عند حشر قطة في كوب النسكافيه وغيرها. إنها أيضاً ظاهرة اخرى لصعود ثقافة المتلقّي في زمن الشبكات المترابطة عبر الكرة الأرضيّة. هل تقدّم أيام «نوبل» المقبلة إجابات عن تلك الأسئلة والالتباسات؟(وكالات)