إعادة الإعمار….. الإنسان أولاً /د. إبراهيم بدران

مع الانحسار التدريجي المضطرد لنفوذ داعش والحركات الارهابية المتطرفة الأخرى وتتابع هزائمها في سوريا والعراق وليبيا ومع تعمق التفاهمات الروسية الأمريكية واستعادة الحكومات المركزية سيطرتها على أجزاء كبيرة من البلاد بدأت تباشير الأمل بانتهاء حقبة الارهاب الساخن والقتل والدمار والحرب الأهلية تظهر في الأفق.
ان ما تم تدميره في العراق وسوريا وليبيا واليمن على مدى السنوات الست الماضية يكاد يتجاوز 60 % من الموجودات الثابتة لتلك الدول من بنية تحتية ومبان ومساكن ومرافق ومدارس ومستشفيات وغير ذلك. اضافة الى ملايين المهاجرين والنازحين واللاجئين الذين أحدثوا خللاً في بنية مجتمعاتهم الوطنية واهتزازات في المجتمعات المضيفة.
وفي هذا الاطار بدأ الحديث عن اعادة الاعمار والأرقام المترتبة على ذلك وبدأت شركات المقاولات والتزويد والاستشاريون بتحضير البيانات والتقديرات وراحت الأرقام الضخمة بمئات المليارت تتصدر عناوين المؤتمرات والندوات. وتضمنت تلك المؤتمرات عناوين حول آلية الاعمار وأدواته والى الكمية المرصودة لأموال الاعمار وعقود التحكيم وتدوير مخلفات المناطق المدمرة والتمويل والانشاء ودور البنوك والدول في هذا الموضوع. لكن السؤال الأكثر أهمية هو: هل اقتصر الدمار في تلك البلدان على المباني والمرافق والموانئ والمصانع أم انه امتد ليشمل الانسان ذاته بعقله ونفسيته ومشاعره والمنظمات المجتمعية والقيم الوطنية والعلاقات الانسانية؟
يمكن للمصور أن يلتقط صوراً مؤثرة لمشاهد التدمير في منطقة سكنية أو آثار تاريخية أو بلدة قديمة ويمكن للشركات الهندسية أن تضع المخططات لاعادة تلك المشاهد كما كانت سابقاً. ولكن ما هي صوة الانسان الداخلية في تلك البلدان؟ وما هي بنية المؤسسات وروح الادارة التي ستتم بها مواجهة المستقبل.
لم تترك الحروب الأهلية وحركات التطرف والارهاب تأثيراتها على مواطني تلك البلدان فقط بل امتدت تبعاتها الى الفضائات الاقتصادية والنفسية والذهنية للمواطن العربي في كل مكان وهذا يقودنا الى ضرورة التفكير والتدبير في المسائل الرئيسة التالية.
أولاً: أن الهزيمة العسكرية للتطرف والارهاب لا يعني تلقائياً خلاص المنطقة بكاملها من فكر الارهاب والتطرف ولا يعني حصانة دول المنطقة من أن تظهر الفرق الارهابية بأسماء وأشكال أخرى.
ثانياً: ان الخطورة قائمة في أن تنتشر فلول الارهاب والتطرف لتصبح خلايا نائمة وذئابا منفردة بفعلها أو فكرها في أي بلد في العالم وخاصة المنطقة العربية.
ثالثاً: ان القوى الدولية والاقليمية والتي حولت الارهاب والتطرف واستخدمته أداة في تدمير البلدان والانظمة ولم يتم الكشف عنه وعن اساليبها في التجنيد والتمويل والتسليح والانتقال معتمدة على البيئات الاجتماعية والسياسية الحاضنة للتطرف. مرشحة لأن تعيد التجربة بشكل مختلف. بمعنى أن الخطر لا زال قائماُ ليس بانبعاث داعش من جديد بقدر ما هو في الغايات السياسة والجيواستراتيجية وأهمها تفتيت المنطقة الى دويلات طائفية وعرقية والتي من أجلها تم صناعة داعش وغيرها من المنظمات التي تعدت 168 جماعة في سوريا فقط.
رابعاً: ان جميع دول المنطقة العربية قد فشلت خلال السنوات السبع الماضية في احداث تحولات ديمقراطية راسخة (باستثناء تونس) تقوم على حكم القانون وتداول السلطة والمواطنة المتساوية والحريات كما فشلت في الآداء الاقتصادي مما فاقم من مشكلات الفقر والبطالة والشعور بالاحباط والمظلومية والتهميش، وهي كلها جوهر البيئة الحاضنة لكل تطرف خاصة في اطار التدهور المتواصل في التعليم والثقافة والاعلام.
خامساً: ان اعمار الانسان في المناطق المدمرة واعماره أيضاً في المناطق المحاذية للدمار واللهيب هو حجر الأساس في اعمار المباني والمرافق وانتقال المنطقة الى مرحلة جديدة. وكما تقر التقارير في الحساب في كلفة الاعمار المادي ومتطلباته فانه يتوجب التفكير في كلفة الاعمار الانساني ومتطلباته في كل دولة عربية دون استثناء. وفي تقديرنا ان مثل هذا الاعمار يكلف مئات الدولارات لكل فرد سنوياً (موزعة بين التعليم والفكر والثقافة والبيئة والصحة النفسية ) على مدى 10 سنوات متواصلة على الأقل.
سادساً: على دول المنطقة أن تدرك بأنها ستبقى مهددة بداعش أو ما يشبهها طالما أنها لا تحدث الاصلاح المطلوب بالنوعية والكمية المطلوبتين وليس عن طريق التنقيط .ذلك أن سرعة التغيير في العالم وسرعة تراكم المشكلات الاقتصادية الاجتماعية تجعل الاصلاح البطيئ عديم الفائدة محدود التأثير وهذا ما يفتح المجال لجرثومة التطرف والانقسام والارهاب والتآمر على الوطن أن تنتشر بسرعة فائقة.
ان المجتمعات التي كانت تنتظر عشرات السنين حتى تتضح قيم الثورة للتغيير نحو الحرية والمساواة والمواطنة والمشاركة والعدل والقانون لم تعد قادرة على انتظار المستقبل الذي يهاجمها بسرعة وهي تشعر بأنها غير مسلحة للمواجهة. انما يقرب من 60% من المجتمع العربي يعتقدون أن ما يحول دون الديمقراطية في بلادهم تمسك النخبة الحاكمة بالسلطة ومعاداتها للديمقراطية اضافة الى الفساد والقبضة الامنية وربما التدخلات الخارجية. ان المطالب الأكثر الحاحاً للجماهير تتمثل في الأمن والاستقرار والنمو الاقتصادي وفرص العمل والوحدة الوطنية والديمقراطية والمشاركة وهذه هي الضمانة الحقيقية للخروج من أزمة الارهاب والتطرف والانفتاح على مستقبل أكثر استقراراً وطمأنةً للمواطن والوطن.

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات