لا نحتاج إلى استطلاعات رأي أو دراسات لتخبرنا أن السلبية باتت تغرق كثيرا من شرائح المجتمع، ويكاد التفاؤل أن يغيب عن تفكير كثير من الناس.
يقول البعض إن “الناس لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب”، فتراهم ينتقدون كل شيء ويشكّون بكل شيء. تستطيع أن تستشعر كم هم غارقون في السلبية والتشاؤم، وأحيانا السوداوية التامة، لدرجة تجعل العين تغفل عن النصف الممتلئ من الكأس.
هذا صحيح؛ فالنصف الممتلئ لم يعد يقنع الناس، وباتوا يسقطونه من حساباتهم، ويركزون على المشكلات، كأن يقللوا، مثلا، من الأمن والأمان الذي نتمتع به، ويتحدثون عن تفشي الجريمة وتطورها، وانتشار آفة المخدرات في المجتمع.
السلبية الطاغية لم تأتِ من فراغ، بل لها أسبابها، وفي المقدمة الخراب الذي يعمّ الإقليم، والصور القاسية التي تابعها الأردنيون من قتل وتشريد ولجوء للملايين في مآلات الربيع العربي ونتائجه القاسية.
يرتبط ذلك، حكما، بتعامل المجتمع الدولي واللاعبين الرئيسيين مع قضايا العرب الملّحة، وازدواجية المعايير التي ما تزال تحكم نظرة العالم إلى هذه المنطقة بالذات.
في هذه الكفة، نرى العجز العالمي عن إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية على مدى عقود الاحتلال، ونعيش يوميا الظلم الواقع على الأشقاء الفلسطينيين من دون أي أفق لحلّ قريب، وأكثر من ذلك فقدان الأمل بوجوده يوما ما، فيما إسرائيل تمضي في غيها وظلمها وسرقتها للأرض والتاريخ، في مقابل عجز عربي وعالمي عن الوقوف في وجه غطرستها.
تنظيم داعش الإرهابي ساهم، أيضا، بصبغ رؤيتنا للمستقبل بالسواد، فالجرائم التي ارتكبها وضعت حملا إضافيا على المجتمع، والخشية من التلاعب بأمن البلد واستقراره. الجرائم التي ارتكبها خلال سنوات ثلاث من إعلانه دولته المزعومة في سورية والعراق، رغم قسوتها وبشاعتها، إلا أنه كان لها دور حاسم في فضح كذبه وتعريته التي أفقدته كثيرا من المتعاطفين معه، وتحديدا ما قبل حادثة الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، وما تلا ذلك من أحداث مشابهة في البقعة وإربد والركبان.
كل هذا الضغط النفسي والعبء الكبير من أحوال الإقليم، يتزامن مع مشهد محلي أساسه حالة اقتصادية شديدة التعقيد، وإصلاح سياسي لم يعد يقنع الأردنيين بأنهم يشاركون بما يكفي في صناعة القرار.
الوضع الاقتصادي كان الأكثر تأثيرا على مزاجهم، فأحوالهم في تراجع عاما بعد عام، والقرارات القاسية رفيقتهم منذ أكثر من عقد، ونتائج الإصلاح الاقتصادي الذي تتغنى به الحكومة لم تصلهم بعد، وفجوة الثقة تباعد المسافة بين المجتمع والحكومات، والأخيرة لا يثق بها الناس بسبب فشلها في زراعة نواة أمل لديهم، ماضاعف الإحساس بالسلبية.
المهم في محاولة تفسير هذه السلبية النظر بعمق في وجدان الأردني، لإدراك السبب والوقوف على تحليل أقرب إلى الحقيقة، لأن في وجدان الناس قناعة راسخة بأن الدولة تخلت عنهم، وأنها لا تجد حلا لمشكلاتها غير جيوبهم، ما يعني مزيدا من الضغوط المالية التي تولد كل هذه السلبية، وأحيانا مناصبة العداء للحكومات، على اختلافها.
من هنا، على الحكومات أن تعي أن السياسات والشعارات التي تبنتها خلال الفترات الماضية جعلتها في واد بينما الأردنيون في واد آخر، وزاد من البعد شعور الناس بالفقر، وليس نسب الفقر نفسها، فمثل هذا الشعور كفيل بخلق مزاج حاد ربما لا يقوم على حقيقة فعلية لكنه إحساس تسرب مع الزمن إلى نفوس الأردنيين وفعل بها الكثير.
الجو العام السلبي مرتبط أيضا بتراجع حجم الطبقة الوسطى خلال السنوات الماضية، وهي الطبقة الديناميكية المحركة للمجتمع ككل، وأيضا تراجع الاهتمام بالثقافة والتعليم، ما أدى إلى مزيد من السلبية التي تغلّف المجتمع وتحدد مزاجه وردود فعله.
يجتمع مع ما سبق غياب التطبيق العادل لفكرة دولة القانون وسيادته على الجميع، إذ ما تزال التشوهات التي تضرب هذه المقولة في مقتلٍ كثيرةً وشاهدةً على عدم الالتزام بها، فعقلية كثير من المسؤولين ما تزال مقتنعة أنه، كمسؤول، من حقه فعل ما يريد وترك ما لا يحب.
.. وبعد كل هذا تسألون: لماذا المزاج السلبي؟