منذ أن تحقق ميزان الردع النووي المتبادل بين المعسكرين؛ الشرقي والغربي، في أواسط خمسينيات القرن الماضي، بات أمر وقوع حرب بأسلحة الدمار الشامل، لا سيما السلاح الذري، خياراً مستبعداً من قائمة الأسلحة الحربية، إن لم نقل إن ميزان الردع هذا قد كبح جماح أي نزعة انتحارية محتملة لدى الدول العظمى الأعضاء في النادي النووي، وهي القادرة على تدمير العالم أكثر من مرة واحدة، الامر الذي أسهم في تحقيق سلام طويل المدى بين المعسكرين المتجابهين على ضفاف الحرب الباردة.
على مدى السبعين سنة الماضية، أي منذ استخدام أميركا لهذا السلاح الرهيب ضد مدينتين يابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تلُحْ في الأفق مخاطر اللجوء إلى هذا الخيار الجهنمي إلا مرة واحدة في أوائل الستينيات، في ما عرف باسم أزمة خليج الخنازير الكوبية، حيث كانت الحروب بالوكالة الضالة المنشودة للقوى الدولية المتصارعة على النفوذ في العالم، كبديل واقعي يمكن احتماله والتعايش معه، طالما أن الحرب النووية صارت من المستحيلات في عرف الدول القوية الراشدة.
أحسب أن ما حيّد هذا السلاح الفتاك من حسابات القوى المتجابهة، لم يكن فقط الخوف من وقوع حرب نووية لا تبقي ارتداداتها ولا تذر من أرواح بشرية، وأن ما جنّب الكرة الأرضية شر استخدام هذا السلاح الجنوني، طوال الوقت، لم يكن كامناً حصراً في قدرة هذه القوى على رد الصاع بمثله، ثم معاودة الهجوم في اليوم التالي، وانما كان بفضل تمتع القوى النووية بحس المسؤولية العالمية، وامتلاك معظمها لنظم ديمقراطية، وتمتعها بقيادات منتخبة، أفرزتها حياة سياسية تتسم بالحكمة والعقلانية.
تضيء هذه المقدمة المطوّلة على نقطة الضعف المميتة في السجالات الراهنة، التي قد تتحول فيها التهديدات النووية المتبادلة بين الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية إلى واقعة حقيقية، جراء وجود رئيس أميركي مشكوك بأهليته القيادية، ولديه جنوح إلى المبالغات والاستفزاز والتهور وردود الافعال غير المتوقعة، ناهيك عن وجود فتى كوري مراهق، وجد بين يديه لعبة من وزن قنبلة نووية وأسلحة بالستية، راح يتحرش من خلالها بجواره الآسيوي، وبعد ذلك بالدولة العظمى الوحيدة.
وهكذا فإن الخطر النووي الماثل الآن، مرده في المقام الأول والأخير، وجود رجلين متهورين يحتلان منصبي القائد الأعلى للقوات المسلحة في بلديهما، ويتمتع أحدهما بسلطات قد لا يتمكن الكونغرس في واشنطن من كبحها في اللحظة المناسبة، فيما لا يخضع الآخر في بيونغ يانغ إلى رقابة اي سلطة داخلية، فضلاً عن شعوره الساحق بالعزلة والحصار، وخشيته من محاولة إسقاط الحكم الذي ورثه كابراً عن كابر، أي عن أبيه وعن جده، الأمر الذي جعل هذه التهديدات أكثر جدية من أي وقت مضى.
ومع ذلك، فمن المرجح بقوة أن ينزلق الوضع بين الزعيمين المتنافسين على مرتبة “أيهما اكثر جنوناً من الآخر” إلى ساحة حرب نووية كارثية مرعبة، حتى إن كانت حرباً تكتيكية صغيرة ومحدودة الرقعة الجغرافية، باعتبار أن مثلّ هذه الحرب التي لا سابق لها بين دولتين نوويتين تخص العالم ودولاً أخرى ذات صلة مباشرة، منها اليابان وكوريا الجنوبية، ومنها أيضاً، وعلى وجه الخصوص دولة في حجم الصين، المخاطبة أساساً بهذه الأزمة، ناهيك عن الدولة الأميركية العميقة التي تعمل على احتواء الموقف كله.
إزاء ذلك، وفي غمرة الدعوات المتصاعدة لخفض حدة التصريحات النارية، من المتوقع ان يتمخّض الحراك الدبلوماسي عن واحد من بديلين؛ أولهما أن يتم الاتفاق على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، مقابل رفع العقوبات وتقديم حزمة سخية من المساعدات، ناهيك عن إدماج كوريا الشمالية في النظام الدولي، وثانيهما الاعتراف بوجود كوريا نووية، أسوة بغيرها من دول النادي الذري، مع خطورة أن يؤدي ذلك إلى دفع البلدان المحيطة إلى تسابق محموم على امتلاك تكنولوجيا مماثلة.
أما عن سيناريو وقوع حرب نووية، فلا أحسب أن كاتباً أو دبلوماسياً، أو حتى جنرالاً متقاعداً، لديه القدرة على تخيّل المشهد الرهيب في أقصى جنوب شرق آسيا، وهو تصور لا يقدر عليه سوى مخرج واسع الخيال من صانعي التحف السينمائية في هوليوود