طمأننا وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الى أنه على تفاهم مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موضوع سورية، فيما كانت وزارة الدفاع الأميركية تنتهج استراتيجية استعادة الأسلحة من «الجيش السوري الحر» بعدما رفضت فصائل منه الشروط الأميركية لمواصلة الدعم، وفي طليعتها عدم قتال القوات النظامية السورية والتركيز حصراً على محاربة «داعش». حروب العقوبات والانتقامات الديبلوماسية المتأججة بين واشنطن وبين موسكو وإيران لن تثني تيلرسون ولافروف عن الاجتماع الأسبوع المقبل في مانيلا على هامش اجتماعات رابطة جنوب شرق آسيا حيث ستكون الحرب على «داعش» و «جبهة النصرة» أولوية قاطعة تُملي السياسات كافة. روسيا ثابتة على سياساتها، بقليل من التأقلم، كي لا تخسر شراكتها مع الولايات المتحدة في المسألة السورية إنما دون أن تتخلى عن أسس ومبادئ تحكَّمت بعلاقاتها مع كل من إيران والنظام السوري. الولايات المتحدة متقلبة، لا تقلقها سمعة الاستغناء عن الأصدقاء والشركاء حين تقتضي ذلك المصالح الأميركية، وإدارة دونالد ترامب تتخبط في تناقضاتها وتأقلمها مع البراغماتية الروسية. بكثير من الاعتباطية كلاهما يزعم ان التفاهمات على مواجهة الإرهاب وعلى مناطق «خفض التوتر» سيليها إحياء عملية سياسية لمستقبل سورية بدستور وانتخابات ومشاركة المعارضة في الحكم بدلاً من استفراد النظام بالسلطة. وكلاهما يدرك تماماً أن لا تعايش بين حكم حزب «البعث» الذي لا يطيق ولا يتحمل تقاسم السلطة وبين عملية ديموقراطية فعلية تُنتج بديلاً من فكر «البعث» ونهجه. المعارضة السورية المعتدلة المسلحة خضعت الآن لواقع الحال بعدما خانت نفسها تارة وخانها الحلفاء والأصدقاء تارة أخرى. فهي أساساً لم تكن مهيّأة أو قادرة على محاربة محور عسكري يضم روسيا وإيران و «حزب الله» وميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني والنظام في دمشق. وهي وقعت ضحية استغناء أميركا عنها تارة وتضليلها تارة إلى جانب تجيير قوى عربية خليجية الحرب السورية لخدمة مشاريعها الإقليمية. وارتكبت المعارضة المعتدلة عدة أخطاء مصيرية، من بينها الاعتقاد أن في وسعها محاربة العدوين، النظام في دمشق و «داعش» و «النصرة» وأخواتها، فوجدت نفسها كما هي اليوم، مُطالبة بأن تحارب حصراً من كان يحارب النظام بموازاتها وان كان لغايات وأجندة لا علاقة لها بالمعارضة المعتدلة. وها هي المعارضة المسلحة، بالذات «الجيش السوري الحر»، تخضع لإملاءات أميركية وروسية وإيرانية فيما تصوغ واشنطن تراتب التكتيك تلو الآخر وبينما يحاول المخضرم نفطياً، ريكس تيلرسون، الإمساك بخيوط اللعبة الاستراتيجية التي يتقنها لافروف بحنكة، فيهرول وراءه سورياً، ويتصرف بسذاجة سهواً أو عمداً عراقياً، ويتأخر بالمبادرة خليجياً على صعيد الأزمة القطرية، ويعارك أشباح إدارة أميركية بدائية.
فوضوية إدارة ترامب لا تعني بالضرورة أنها وحدها المسؤولة عن السياسات الأميركية، لأن تلك السياسات بمعظمها تتخذها الولايات المتحدة على المدى البعيد وعلى أساس المصلحة القومية، لذلك هناك خيوط استمرارية بين ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش عبر حربه على الإرهاب في العراق، وما ترتب على ذلك من استدعاء الإرهابيين الدوليين إلى المشرق العربي، ومن تقديم العراق على طبق من فضة إلى إيران، ومن حذف العراق كلياً من المعادلة العسكرية الاستراتيجية مع إسرائيل، وبين ما لم يفعله الرئيس باراك أوباما إزاء المجازر في سورية متشبثاً بايران وبدعم صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وغيرها لخلق الفوضى.
ريكس تيلرسون هو الواجهة الديبلوماسية لإدارة رئيس غير عادي أتى في فترة مؤرقة للدول الخليجية في أعقاب العقيدة الأوبامية التي قزّمت عمداً العلاقة الأميركية معها لصالح إحداث نقلة نوعية في العلاقة الأميركية– الإيرانية. ما حمله ترامب قبل بضعة أشهر إلى قمة الرياض من طمأنة بقلب الصفحة الأوبامية لتحل مكانها العقيدة الترامبية ما لبث أن اهتز بسبب مواقف أميركية ميدانية ازاء المشاريع الإيرانية الممتدة من العراق إلى سورية إلى لبنان اتسمت بالتهادنية والصمت والقبول بالأمر الواقع. اهتز أيضاً بسبب غموض الأدوار والمواقف الأميركية من الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر من جهة أخرى.
تلكأ تيلرسون في ما كان يجب أن يفعله عند اندلاع الأزمة القطرية. كان يجب أن يتحرك فوراً على صعيدين متوازيين: بتدخله شخصياً، وبتعيينه مبعوثاً رفيع المستوى. لم يفعل. عندئذ كان في الإمكان ضبط الأمور على أسس واضحة. الآن، وبعد مضي شهرين على الأزمة، باتت المهمة أصعب حتى مع تكليف تيلرسون هذا الأسبوع موفدين للقيام بها. فقد بعثت الإدارة الأميركية مؤشرات إلى كل من طرفي الأزمة جعلت كلاً منهما يفسرها لمصلحته على رغم تناقضاتها. وهذا بالتأكيد يساهم في سلبية التطورات في الخليج بمساهمات أميركية خطيرة، مقصودة كانت أو غير مقصودة.
جزء مما آلت إليه الأزمة فعلياً هو انعكاسها على مستقبل مجلس التعاون الخليجي الذي لمَّ شمل الدول الخليجية الست أمنياً واقتصادياً وسياسياً بالرغم من التباين أحياناً.
قد يقال ان تحوّل مجلس التعاون من عضوية سداسية إلى عضوية خماسية من دون قطر لن يؤدي إلى تفكيك المجلس أو حلِّه، بل قد يقال ان محور السعودية– الإمارات بحد ذاته هو بذلك الوزن الضخم إلى درجة لا يتأثر معها بتصدع أو تفكيك مجلس التعاون. واقع الأمر هو ان تفكيك مجلس التعاون الخليجي يخدم ايران ومشروعها الأمني في المنطقة القائم على تولي طهران مهمة القيادة الأمنية الخليجية، فهي التي تقرر ان كانت الشراكة الأساسية أميركية أو روسية. وهي التي تتحكم بالمنطقة الخليجية لأنها تمتلك الأدوات الأمنية في هذه الحال.
فليس صدفة ولا هو قرار إدارة عابرة أن يتم طي العداء والقطيعة بين واشنطن وطهران طبقاً لعقيدة أوباما وعلى أساس إقراره بشرعية النظام الحاكم في طهران وهو حكم ثيوقراطي يفرض الدين على الدولة ونظام يؤمن بولاية الفقيه وبحقه في تصدير ثورته. وليس مطمئناً ما تشهده المنطقة الخليجية من تلكؤ وتردد أميركي في احتواء الأزمة مع قطر كما يجب –وأميركا قادرة لو شاءت الاحتواء– بما يؤدي إلى تفريق الدول الخليجية وتفكيك عقد التكامل الأمني والاقتصادي والسياسي بينها. وليس منطقياً غض نظر أركان إدارة ترامب عمداً عن الإنجازات الإيرانية الميدانية الأساسية في مشروع «الهلال الفارسي» الذي يترسّخ في الأراضي العراقية والسورية واللبنانية.
فليس كافياً أن يصرح ريكس تيلرسون ان استمرار تواجد العسكريين الإيرانيين في سورية «أمر غير مقبول»، ذلك ان مطالبة الدول العظمى في العالم بإنهاء الوجود الإيراني العسكري في سورية يجب أن تكون لها آلياتها وبرامجها التنفيذية ضمن اطار زمني. ما نشهده الآن هو طأطأة الرأس الأميركي أمام قيام «الحرس الثوري» و «حزب الله» بفرض الأمر الواقع عسكرياً ميدانياً في الخريطة السورية، بلا أي جهد لإيقاف مشروع «الهلال الفارسي» الذي تزعم إدارة ترامب أنها تقف ضده وستمنع قيامه. أركان هذه الإدارة تعهدوا بمنع استيلاء إيران المباشر أو غير المباشر على الأراضي التي يتم تحريرها من «داعش» و «النصرة» في العراق وسورية، إنما ما يحدث ميدانياً يفيد بأنهم تراجعوا عن التعهدات باسم الأولوية الأميركية المعنية بـ «داعش».
يطمئننا ريكس تيلرسون إلى أن هذا الأمر الفائق الأهمية سيكون ضمن التفاهمات مع روسيا التي أوضحت تكراراً ومراراً أنها لن تتخلى عن حلفائها وأصدقائها في سورية. فهي تفتخر بأنها نجحت في كسب سمعة الاتكال عليها وصدق تعهداتها مقابل السمعة الأميركية بسرعة الاستغناء عن الأصدقاء والحلفاء العابرين ما عدا الحليف الإسرائيلي الذي هو حليف عضوي للولايات المتحدة وجزء من التركيبة الداخلية. ثم ان الغايات الروسية في سورية ثابتة بينما الأميركية متقلبة.
بالرغم من كل ذلك، ليس أمراً هامشياً أن يعلن وزير الخارجية الأميركي ان انسحاب القوات الإيرانية من سورية يمثل شرطاً ضرورياً لتسوية النزاع. عسى أن تكون مواقف تيلرسون جدية وان تمثّل مواقف السياسة الأميركية البعيدة المدى الدائمة وليس مجرد سياسة الاستهلاك اللفظي العابر. كذلك الأمر في ما يتعلق بوعود التسوية السياسية في سورية بعد الانتهاء من معركة الرقة ضد «داعش» ومن عملية مناطق «خفض التوتر» التي تقودها روسيا. لا يكفي ان يقول تيلرسون إن لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سورية وهو يدرك تماماً أن روسيا تختلف معه في الأمر جذرياً. فإذا أرادت واشنطن أن تؤخذ بجدية عليها إثبات الجدية فعلاً.
الوزير المخضرم سياسياً، سيرغي لافروف، لن يفرّط بعلاقة يريد ترسيخها مع الوزير المخضرم نفطياً ريكس تيلرسون، ولذلك ستكون السياسة الروسية أكثر حذراً ودقة بالذات مع بشار الأسد. موقع «بلومبرغ» الاخباري نقل عن الروس ان موسكو تريد أن يقبل بشار الأسد بـ «تقاسم رمزي للسلطة» مع المعارضة. هذا ليس أبداً ما نص عليه «بيان جنيف» وما تلاه من بيانات سياسية في آستانة أو غيرها. موسكو دعمت الأسد منذ البداية ورسخته في السلطة وكسرت شوكة المعارضة السورية وهي لن تتخلى عنه ما لم تكن هناك صفقة أميركية– روسية ضخمة تتطلب مثل هذا الثمن. هذه الصفقة بعيدة جداً الآن فيما بشار الأسد يزداد تصلباً في رفضه التنازلات وتقاسم السلطة بعدما أحرز الإنجازات العسكرية الميدانية بشراكة إيرانية وبغطاء عسكري جوي روسي، فهو يعتبر أنه انتصر، وعليه سيمسك حزب «البعث» زمام الأمور بكل حدة واستفراد وعزم على تلقين الدروس للذين تجرأوا عليه بكل أدوات الانتقام.
نُقِل عن رئيس «مجلس الشؤون الدولية» الروسي، اندريه كورتونوف، المقرب من الكرملين، قوله ان تعمّد الأسد تعطيل العملية السياسية خلق «توتراً» في العلاقة بينه وبين روسيا. وزاد: «روسيا ليست مستعدة لخوض الحرب حتى تحقيق الأسد النصر». هذا أيضاً كلام مهم، إنما ليس واضحاً ان كان جدياً أو لمجرد الاستهلاك.
الواضح ان روسيا تملك أدوات الضغط والتأثير على كل من بشار الأسد ونظامه وإيران وميليشياتها من الغطاء الجوي الذي ما زال ضرورياً للعمليات العسكرية لكليهما إلى العلاقات الثنائية مع كل منهما. موسكو لن تستعمل هذه الأدوات ما دامت السياسة الأميركية تتسم بالضعف والتردد والاستلقاء.
الغامض هو ما إذا كانت السياسة الأميركية البعيدة المدى على تلك الدرجة من الدهاء الذي يحرِّك عمداً ذلك الانطباع بأنها في المقعد الخلفي لروسيا، بينما هي واقعياً مُشبعة بالبراغماتية ضماناً للمصالح الاستراتيجية الأميركية على حساب الأعداء والأصدقاء على السواء.