بات واضحاً بعد ختام جولة محادثات آستانة الأخيرة في شأن الملف السوري، أن وضعاً خاصاً تم الخوض به في شأن الجنوب السوري، وأن أطرافاً إقليمية عدة من داخل الاجتماعات ومن خارجها شاركت في البحث في هذا الوضع قبل وبعد انعقاد جلسات آستانة التي قاطعتها أطراف عدة من المعارضة السورية المسلحة، بسبب استبعاد محافظة إدلب من خريطة خفض التوتر.
الاتفاق الذي توصل إليه الجانبان الأميركي والروسي بعد لقاء الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في مدينة هامبورغ، يؤسس لمسار ثالث في الملف السوري المُعقّد، يضاف إلى مساري جنيف وآستانة.
لقد شَهِدَ ملف الأزمة السورية تطوراً جديداً في اللقاء الأول بين الرئيسين بوتين وترامب، أثناء قمة هامبورغ، حين تم التوافق على خفض التوتر على الجبهة الجنوبية الغربية في سورية، وتحديداً في المنطقة المحصورة بين سورية والأردن وإسرائيل، والقيامِ بترتيباتٍ خاصة في تلك المنطقة بعد تفاهماتٍ أخذت في الإعتبار عوامل عدة، وأهمها العامل الإسرائيلي.
إذاً ما جرى في قمة هامبورغ جاء بعد جهدٍ كبير تم بذله بالمفاوضات التي لم تتوقف. وجاء أيضاً نتيجة محادثات طويلة استضافتها العاصمة الأردنية عمان، وجرت في موازاتها لقاءات بين الأطراف المتحاربة على الأرض في مدينة درعا، بوساطة روسية، وقد اتفق خبراء روس وأميركيون وأردنيون على مذكرة تفاهم لإقامة منطقة خفض تصعيد.
بالتالي يُمكن وصف ما صدر عن قمة الرئيسين ترامب وبوتين في شأن الملف السوري، من تفاهماتٍ أميركية – روسية أنه ليس بعيداً من الموقف والمطالب الإسرائيلية، بل كانت إسرائيل طرفاً فيها رغم غيابها، وعلى رغم تحفظاتها المُعلنة أخيراً عليها. حيث تراقب تل أبيب تلك المنطقة الجغرافية في الجنوب السوري باهتمامٍ بالغ، وتُصِرُّ على استبعادِ وجودِ أي قواتٍ إيرانية أو من قواتِ «حزب الله» اللبناني، وأي قوة عسكرية على شاكلتها، وتقبل وجود قوات الشرطة العسكرية الروسية كمسؤولة عن الأمن في منطقة تخفيف التصعيد في الجنوب، على أن يتم تنسيق العملية مع الولايات المتحدة والأردن. وكانت حكومة نتانياهو رفضت نشر قوات روسية في الجنوب السوري، وطالبت بنشر قوات أميركية على رغم علاقتها الوثيقة مع موسكو، لكن طمأنة واشنطن لها دفعتها للقبول بنشر قواتٍ للشرطة العسكرية الروسية.
هذه التفاهمات هي الأولى من نوعها في عهد إدارة دونالد ترامب، لتطبيق اتفاق الهدنة الذي تم الإعلان عنه في هامبورغ. حيث تَحمِلُ تلك التفاهمات الجديدة في طياتها مُقاربة أميركية مُختلفة للملف السوري وتدل عليها مواقف واشنطن من الأزمة السورية ككل. كما أنها بداية عمل جديد بين موسكو وواشنطن، بعد أن كانت التباينات بينهما قد وصلت في مراتٍ سابقة الى مستوياتٍ عالية في شأن الملف السوري.
ويُمكن في الوقت ذاته قراءة استباق دمشق الإعلان عن الإتفاق وإعلان هدنة من طرفٍ واحد وتمديدها، على أنه بادرة قبول وترحيب بالمحادثات التي أفضت إلى التفاهم الأميركي – الروسي، وذلك على رغم أن مدينة درعا شهدت خلال أيام الهدنة الماضية قصفاً متبادلاً متقطعاً، حتى بعد الإعلان الأميركي – الروسي.
وفي التقدير، إن الإتفاق والتفاهمات في شأن الجنوب السوري، مؤشر مهم جداً يؤكد بأن الولايات المتحدة وروسيا قادرتان على العمل معاً في شأن سورية، واجتراح ما يُمكن من تفاهماتٍ تُساهِمُ في الولوج باتجاه المساعدة على التوصل الى حلول سياسية للأزمة السورية بعد سنواتٍ من الدمار وسفك الدماء، وذلك اذا توافرت الإرادة لدى الطرفين معاً. فالطرفان الأميركي والروسي توصلا الى تفاهماتٍ في منطقة جغرافية لها خصوصياتها، حيث تُشكّل مسرحاً مُعقّداً جداً من ساحات الصراع السوري. لذلك إن نجاح التفاهمات في المنطقة إياها، هو خطوة نحو ترتيب أكبر، قد يفتح الطريق أمام تفاهماتٍ جديدة في شأن مناطق ثانية مشتعلة. فهل بتنا في بداية الطريق التوافقي بين رأسين مقررين في شأن ملف الأزمة السورية؟