متى نتأكّد من أنّ «إعادة تأهيل» بشّار الأسد قد اكتملت، وأزيل آخر العوائق من أمام استقباله إقليميّاً ودوليّاً؟
الجواب: حين تنطلق عبوة أو رصاصة تقتل سياسيّاً أو صحافيّاً في بيروت.
اليوم، من لبنان إلى مصر إلى تونس إلى فرنسا والولايات المتّحدة، فضلاً عن روسيا وإيران بالطبع، تُبذل الجهود لـ «إعادة تأهيل» الأسد. جهود ديبلوماسيّة جبّارة تصبّ في هذه الوجهة. دماء كثيرة تُسفك من أجل ذلك. أكاذيب على شكل «أفكار» تُروّج لتمرير ذلك. «الطرق إلى القدس»، المستقيمة منها والالتفافيّة، تُباع بأسعار مخفّضة في الأسواق خدمةً لهذا الهدف.
طبعاً هناك سوابق مع بشّار جرت في ظروف أقلّ دراميّة وخطورة بلا قياس، كانت أهمّها سابقة نيكولا ساركوزي التأهيليّة. لكنّ مناخ الثورة المضادّة العربيّ لا يكترث بالعِبَر. أهمّ منها بكثيرٍ لهفة الملهوفين إلى البلايين التي تدرّها إعادة إعمار تلي إعادة التأهيل. تفاهة وانحطاط ما آلت إليهما المعارضات السوريّة، المسلّحة والسياسيّة، تبريرٌ مشجّع للعاملين على ردّ السوريّين إلى بيت الطاعة.
لكنْ لماذا سيكون الاغتيال في لبنان إشارة الانطلاق إلى المرحلة السوريّة المقبلة؟
بشّار ونظامه سيّدان على هذا الصعيد – صعيد الدم. به يفتتحان تاريخهما المستأنَف. ثمّ إن لم يكن الأمر اغتيالاتٍ، فماذا يكون؟ ماذا في الجعبة غير ذلك؟ وعود تاريخيّة كبرى؟ طور نوعيّ من التنمية؟ قفزة في مجال التعليم؟ الموجود هو القتل، والنظام الأمنيّ يجود بالموجود. البراعة في القتل تتصدّر الـ «سي في» الفارغ من كلّ مزيّة أخرى. ثمّ إنّ هذا النظام ثأريّ وانتقاميّ بطبيعته وبشهادة سجلّه، فكيف وهناك لبنانيّون، من «أهل القلم» ومن «أهل السيف»، يناشدونه أن افعلْ: خلّصنا من العملاء والخونة والجواسيس الذين يعترضون طريقنا إلى القدس. اقتل. اقتل. والمثل الشعبيّ يقول: لا توصِ حريصاً!
وبما أنّ الثورة السوريّة صدّعت هيبة الحاكم والنظام اللذين يقومان على هيبة مفروضة بالقوّة، فإنّ في وسع الرعب الذي يثيره الاغتيال أن يردّ شيئاً من الهيبة. أن يوحي، على الأقلّ، بذلك. يضاعف الحاجة إلى مسرح دمويّ كهذا أنّ السلطة الفعليّة موزّعة بين الروس والإيرانيّين وميليشياتهم. إذاً: هذا فحسب ما يتبقّى لهم من سلطة.
لكنْ أيضاً: لبنان هو الساحة السهلة. النظام السوريّ أدرى بشعاب لبنان وشعاب الاغتيالات فيه. خبرتُه هنا تفوق كثيراً خبرته في إدارة اقتصاد بلاده أو إدارة تعليمها، بل تفوق خبرته في الاغتيال في «ساحات» أخرى. سهولة الساحة اللبنانيّة يزيدها واقع ازدواج السلطة مع «حزب الله». تحالف الطرفين في الموضوع السوريّ، وأخيراً، شعبيّة «الانتصارات» التي يحقّقانها، المعزّزة بـ «حلف الأقلّيّات»، تفتح الدروب المغلقة. تذلّل العراقيل. تصوّب يد القاتل حين تعوجّ.
والتاريخ يشير في الاتّجاه هذا. في لبنان البرلمانيّ القديم لم يكن رائجاً التخوين الذي يتلوه القتل. والاغتيالات، كما نعلم، أعلى مراحل التخوين. «فليرحلوا عنّا»، يقول المحرّضون على القتل، أمّا التتمّة الضمنيّة فهي: إن لم يرحلوا عن البلد رحّلناهم عن الدنيا.
في الماضي، خلاف بشارة الخوري وإميل إدّه لم يؤدّ إلى تصفيات دمويّة، ولا خلاف كميل شمعون وحميد فرنجيّة، أو فؤاد شهاب وكميل شمعون، أو صائب سلام ورشيد كرامي، أو كمال جنبلاط وكميل شمعون. في الزمن الاستقلاليّ، جاءتنا «ثقافة» الاغتيال من طرفين هما ابنا عمّ: الأحزاب التوتاليتاريّة النشأة والتكوين التي افتتحت القتل بقتل رياض الصلح، والأنظمة الأمنيّة- العسكريّة التي افتتحته بقتل كامل مروّة.
دمشق اليوم تحضن التقليدين. لهذا فحين يُغتال أحدهم في لبنان، وحين تقطع الراديوات والتلفزيونات بثّها لنقل الخبر العاجل… قلْ: عاد بشّار حاكماً سيّداً. فبالموت سوف يبدأ العهد الجديد، بعد عيش العهد القديم طويلاً في الموت.