الاتفاق بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين يضمن «مصالح» اللاعبين الإقليميين في سورية. تعمقت مشكلة تركيا التي يروعها الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى الكرد. وتبددت سياسة إيران التي قدمت وميليشياتها الكثير لبناء قاعدة محاذية لحدود إسرائيل في الجولان. وأُبعدت عن الحدود الجنوبية مع الأردن. جاء الاتفاق لمصلحة تل أبيب وعمان أيضاً. لا يسمح بوجود لقوات النظام أو الميليشيات قريباً من حدود المملكة الهاشمية. لا يبقى أمام أنقرة وطهران سوى التكيف مع هذه الدينامية الجديدة، أو انتظار فشل وقف النار في الجنوب السوري، أو الأمل بسقوط التفاهم بين الدولتين الكبريين.
أعاد الاتفاق ترسيخ قواعد اللعبة التي كانت سارية أيام الحـــرب البـــاردة. كان على القوى الإقليمية أن تـــرضخ لشروط التسويات التي كانت الدولتان العظميان تعقـــدانها. ولم يكن يسمح لأي دولة بأن تجـــازف في التمرد. فهل بات بوسع واشنطن وموسكو استعادة ذلك النموذج أم أن المتضررين يملكون ما يمكّنهم من الخروج على القواعد الجديدة القديمة؟
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كشف بعد قمته الأخيرة مع نظيره الأميركي في باريس أن هناك مبادرة سياسية مشتركة لحل شامل في سورية. وتقودها مجموعة اتصال من الدول الخمس الكبرى وبعض دول المنطقة وممثلون عن النظام في دمشق. وكرر ما كان أعلنه بعد لقائه نظيره الروسي أن موقف فرنسا تغير. «الهدف هو اقتلاع كل المجموعات الإرهابية من دون أن يكون رحيل الأسد شرطاً مسبقاً». الاتفاق الأميركي – الروسي على وقف النار في جنوب سورية يمكن اعتباره إذاَ نموذجاً يمكن تعميمه ويشكل بداية المبادرة السياسية التي تعمل لها باريس. وإذا صمد الاتفاق يمكن تعميمه على مناطق أخرى، إذا تعذر ثانية تفاهم الأطراف الثلاثة المعنية بلقاءات آستانة على مناطق «خفض التوتر». لذلك لا تخفي أنقرة مثلاً مخاوفها من قيام تفاهم مماثل على الحدود الشمالية. كما تستعجل إشعال معركة عفرين. هاجسها الأول والأخير ضرب تطلعات الحزب الديموقراطي الكردي و «وحدات حماية الشعب» لبناء كيان ذاتي مستقل شمال شرقي سورية. وما يعمق هواجسها ان روسيا تعارض أيضاً محاولاتها ضرب «وحدات حماية الشعب» سواء في عفرين وغيرها. أما طهران فلا يروق لها بالتأكيد أن يطيح التفاهم الثنائي بين الكبيرين كل ما سعت إلى ترسيخه، والذي قد يتطور فعلاً إلى قطع الجسر الذي يربط بين بغداد ودمشق وبيروت. أدركت أن حليفها الروسي لم يراع أصول التحالف وقدم عليه مصالحه مع الولايات المتحدة. وكذلك فعلت الأخيرة بتجاهل مصالح الحليف التركي. لذلك يستعد «حزب الله» لمعركة عرسال التي تحولت أخيراً مادة سجال سياسي حام تناول دور الجيش اللبناني والعلاقة بين بيروت والنظام في دمشق.
قد لا يكون بمقدور تركيا وإيران الخروج على رغبة الرئيسين ترامب وبوتين في تهدئة الوضع في سورية. والدليل رسوخ الهدنة في جنوب هذا البلد، وقبل ذلك تهيّب تركيا من التقدم نحو منبج ومناطق أخرى يسيطر عليها الكرد بعدما تقدمت إليها قوات أميركية ورسمت «خطاً أحمر». الإدارة الجديدة لن تكتفي بحرمان «داعش» من «أراضي الخلافة». حددت بوضوح في قمم الرياض الثلاث أنها معنية بالقــدر نفسه بتقليص نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة العربية. والكرملين يستعجل التهدئة في بلاد الشام خوفاً من تحولها ساحة استنزاف تضاعف متاعبه الاقتصادية نتيجة العقوبات الغربية. قد يأتي «المدد» لأنقـــرة وطهران من حيث تدركان وتعرفان. قد يأتي من المجموعات التي انضوت تحت راية «دولة الخلافة» في كل من سورية والعراق. فهل يعقل ألا يعرف الرئيس الفرنسي وجميع الذين يصبون جهودهم على ضرب «داعش» أن التنظيم لم ينطلق من فراغ؟ إن اقتلاع الإرهاب الذي صرف نظر دول غربية وعربية عدة عن اقتلاع الرئيس بشار الأسد قد لا ينتهي بتحرير الرقة بعد الموصل. فما دام الصراع المذهبي لا يزال على أشده في المنطقة يصعب توقع طي صفحة الإرهاب. «دولة الخلافة» التي ورثــت «دولة أبي مصعب الزرقاوي» لم تقم على أكتاف المقاتلين الأجانـــب. جـل عناصرها كانوا من أهل البلدين. وهي صورة مرعــبة من صور الصراع الأهلي المذهبي. وتحدث الأيـزيديون والكرد والأقليات الأخرى، عقب إعــــلان «دولة الخلافة» عن «جيران» و«معارف» ســـاهموا فـــي تشريدهم دعماً لمشروع «البغدادي». وإذا تعمق إحسـاس أهل السنة في المشرق العربي بالضيم من سيـــاسات بغداد ودمشق وشركائهما الآخرين الذين تدعمهـــم إيران سيظل فكر التطرف حياً. ولا ريب لدى جميع الذين انخرطوا في معركة الموصل أن أعداداً كبيرة من المقاتلين المحليين في «تنظيم الدولة» باتوا في عـــداد «اللاجئين». وسيكونون مستعدين لتكرار تجـــربة البـغــدادي. بل سيكـــونون قنابل موقوتة على امتداد بلاد المشـــرق. ويعرف الأردن أكثر من غيره مثـــلاً العدد الكبير للإرهابيين المقيمين بين اللاجئين في مخيم الركبان. وبالتأكيد يعرف العراقيون ألوفاً منهم خرجوا مع النازحين من جحيم الحرب. وكانت عمان ولا تزال تخشى تسلل هذه العناصر الإرهابية إلى أراضيها وعبرها إلى شبه الجزيرة.
ولن ينفع أن يكتفي الروس بتطوير وتعزيز قاعدتيهم في حميميم وطرطوس. ولن تنفع نصائح وزير خارجيتهم سيرغي لافروف إلى المعارضة بالتوقف عن المطالبة بتنحية الأسد. حجته الخوف من تكرار تجربة العراق وليس دعم الرئيس السوري «لأنه بعد القضاء على الديكتاتور سيجري القضاء على البلد». ولن تبدل كثيراً في واقع الأمر مساعي إدارة ترامب لدى الكونغرس لتعزيز الوجود العسكري أو تجديده في العراق وسورية، حتى بعد القضاء على «داعش». إن إرغام المعارضة السورية على القبول بإعادة تأهيل النظام لن تؤدي إلى تسوية سياسية دائمة. هل يشمل تفاهم موسكو وواشنطن رؤية لحل أزمة اللاجئين والتغيير الديموغرافي في بلاد الشام؟ أم هل في ذهن باريس مثلاً رؤية ستقدمها إلى «مجموعة الاتصال» الموعودة؟ لن تكون مرحلة ما بعد الرقة أفضل من مرحلة ما بعد الموصل. القوى والأحزاب السنية العراقية على تشتتها بدأت تحذر من التغيير الديموغرافي كما حصل ويحصل في سورية. وليس مضموناً أن ينجح تشكيل «تحالف القوى الوطنية» السني في فرض نفسه ممثلاً للمحافظات المستعادة من «داعش»، ومواجهة ما سماه «محاولات التغيير الديموغرافي». وأياً كانت نتيجة الجهود العراقية الرسمية والحزبية لمنع تفاقم الاحتقان المذهبي أو لإخراج «الحشد الشعبي» فإن مدينة الموصل لم توفر فيها الحرب حياً أو مبنى وتركتها خراباً أسوة بحلب والمدن ذات الغالبية السنية.
هذا الاحتقان المذهبي المتصاعد قد لا يوفر لبنان هذه المرة على وقع ما يقال عن حرب وشيكة في جرود عرسال حيث ينتشر أكثر من مئة مخيم للاجئين السوريين. وتعتقد دوائر معنية بأن الحرب إذا اندلعت في هذه الجبهة فإن الجيش اللبناني قد يجد نفسه مرغماً على خوضها. ذلك أن شن النظام السوري وحلفائه المعركة من الأراضي السورية سيدفع مقاتلي «جبهة فتح الشام» وغيرهم من الإرهابيين إلى الاندفاع نحو الحدود الشرقية للبنان. ولا مناص عندها من تحرك الجيش. وهو ما سيعزز حملة قوى سنية ترى إليه سنداً لفئة من اللبنانيين من دون أخرى. وتطمح إيران وميليشياتها من وراء «تطهير» الحدود الشرقية مع سورية، سواء بالمفاوضات أو بالمواجهة العسكرية، إلى تقديم «إنجاز» بالقضاء على «تهديد» الإرهابيين للبنان. وكذلك تسعى إلى تغطية ما لحق بمشروعها في مناطق أخرى من سورية نتيجة الاتفاق الأميركي – الروسي. إلا أن مثل هذه الحرب سيعزز شعور أهل السنة بأنهم مستهدفون، وهم لا يزالون يذكّرون بمحطات من هذا الاستهداف تبدأ باغتيال أبرز زعمائهم الشهيد رفيق الحريري وأحداث طرابلس وبعض مناطق الشمال وعبرا وغيرها وغيرها… وسيدفع هذا الشعور المتنامي المتشددين في صفوفهم وأعداداً من النازحين السوريين الذين يقاسون الأمرين إلى أحضان المتطرفين.
اقتلاع الإرهاب لن ينتهي بتحرير الموصل والرقة. ولن ينتهي باتفاق الكبيرين الأميركي والروسي على تسويات وتقسيمات هنا وهناك. وليس على تركيا وإيران الغاضبتين من حليفيهما سوى الانتظار في الوقت الضائع والتوكأ على القوى والمكونات المحلية في كل من العراق وسورية و… لبنان لابتداع أشكال جديدة من الحروب وتعويضهما ما يخسران من تفاهم الكبار!