صدر كتاب جديد للمؤلف النمسوي مارك إلسبيرج، صاحب العديد من الكتب الأكثر مبيعاً في السنوات الماضية، في هذه المرة يحمل كتابه عنوان: «هيليكس– إنهم سيستبدلوننا»، يتناول فيه مستقبل الهندسة الوراثية في صورة روائية، فالزوجان جريج وهيلين، وهما في نهاية العقد الثالث من العمر، يتوجهان لمستشفى أميركي ليساعدهما على تحقيق حلم الإنجاب بعد طول انتظار، فيكشف لهما الطبيب المختص عن وجود برنامج بحثي، يتيح اختيار المواصفات الجينية للمولود، بحيث يتمتع بصحة جيدة، وبدرجة عالية من الذكاء، مع إمكان تحديد هواياته ليحب الفن أو الرياضة أو غيرها.
وفي أكثر من 600 صفحة، يناقش المؤلف مع القارئ مسألة تستحق التفكير، حتى ولو بدت خيالية على الأقل في الوقت الراهن، وهي هل يقبل الوالدان التدخل في المواصفات الوراثية للجنين، أم يرفضان ذلك، وعندها يخاطران بأن يرث منهما طفلهما المولود احتمال الإصابة بالسرطان أو بمتلازمة داون، أو بغيرهما من الأمراض الموجودة في العائلة، أو على الأقل الجينات التي تجعله يميل إلى البدانة، أو أن يكون معدل ذكائه متوسطا؟
قد يبدو السؤال سخيفاً وغير واقعي، لكن التقدم الذي حققته الهندسة الوراثية في السنوات الماضية ليست خيالية، بل حقيقية لا يمكن التشكيك فيها. وقد توصل العلماء إلى طريقة حديثة لتغيير الحامض النووي للنباتات والحيوانات وحتى الإنسان، ويسعى العلماء إلى التوصل إلى الشفاء من الأمراض الخطرة بأمر الله، أو حتى الحيلولة دون الإصابة بها من الأصل، وهو أمر يبدو إيجابياً، لكن البعض يحذر من أنه خطوة ستعقبها خطوات، قد تجعل الهدف يصبح بعد ذلك، برمجة الإنسان وحياته، بل والأخطر من ذلك إمكان التحكم في طول العمر بإرادة المحيي المميت.
ومن المثير للاهتمام أن شركات تقنيات عملاقة تضخ ملايين الدولارات في هذه الأبحاث حول الموت. يقول بيتر تيل وهو أحد مؤسسي شركة «باي بال» لأنظمة الدفع عبر الإنترنت: «إن هناك ثلاث طرائق للتعامل مع الموت: البعض يقبل بحدوثه، والبعض ينكر حدوثه، والبعض الثالث يحاربه»، مضيفاً: «أعتقد أن الغالبية في مجتمعنا تتقبل حدوثه أو تنكره، لكني أريد محاربته»، وينفق في سبيل ذلك الكثير من الأموال، ويشارك معه مؤسس شركة «أمازون».
وفي المقابل أسست غوغل شركة فرعية في 2013 ومولتها ببليونات الدولارات، مهمتها هي مواجهة التقدم في السن، وتقوم شركة أخرى اسمها «SENS» بإجراء أبحاث عن سبب إصابة الإنسان بالشيخوخة، وإمكان التلاعب في ذلك، ويعلن رئيس قسم الأبحاث فيها أنه لا يسعى إلى أن يعيش الإنسان ألف سنة، بل أن يتمكن الإنسان من تجنب الموت، إلى آخر وقت يريد الإنسان أن يعيشه، ويشير إلى دراسات تثبت أن عمر الإنسان سيتضاعف خلال الـ150 عاماً المقبلة، ويوضح أن ذلك لا يعني أنه لن يكون هناك موت، لكن ينبغي ألا يكون السبب الرئيس في الموت هو الشيخوخة، بل بسبب استمرار وجود حروب وجرائم وحوادث مرور.
ويرى الباحثون أن قضية الموت ينبغي أن تتخلص من الجوانب الميتافيزيقية، وتصبح مشكلة هندسية فحسب، وأنه يمكن حل شفرة الجينات المتسببة في الشيخوخة.
من جانبهم، يشير علماء الفلسفة إلى ضرورة النظر في تبعات العيش لأكثر من 100 سنة، لأن تربية الأطفال لن تصبح هي هدف حياة الوالدين، بل عبارة عن مرحلة قصيرة جداً في حياتهما، ويجب أن يجدا أهدافاً أخرى عدة تشغل بقية السنوات الكثيرة التي سيعيشونها، كما أن هناك ضرورة للتفكير في عدد سنوات الدراسة المناسبة لعمر يستمر طويلاً.
لكن السؤال الملح الآن هو: ما رأي الناس في مسألة إجراء التجارب على الإنسان، بعد أن أثبتت نجاحها على فئران المعامل؟ هل سيتخلى الناس عن حساسياتهم الأخلاقية، ويقبلون أن تتحول الأجنة البشرية إلى حقل تجارب؟
وإذا كان الناس في أوروبا والولايات المتحدة يرفضون ذلك، على رغم ما يعدهم به العلماء من نتائج إيجابية في علاج الأمراض الخطرة، فهل سينتظرون أن يتوصل الصينيون مثلاً لهذه النتائج، ثم يبدأ الآخرون بعدهم بسنوات طويلة؟
إذا كنا نحن المسلمين لا نشارك في مثل هذه الأبحاث، فليس أقل من أن نفكر في كيفية التعامل معها، المهم ألا نوصد باب التفكير، خوفاً من المحاذير المختلفة، ونحاول من خلال عقولنا النيرة البحث عن ضالة المؤمن في الحكمة التي يجدها عن الآخرين.
ما نسمعه عن الهندسة الوراثية والخلايا الجذعية وتطورهما يجعلنا نفكر كعقليات تؤمن بأن العلم نور يقذفه الله في عقول أولي البصيرة، اصطفاها من خلقه ومنحها مفاتيح لكي تجد حلولاً لمشكلات يعاني منها كل أحد بما يتوافق مع المنظومة الأخلاقية والدينية، وتجعلنا نؤمن أكثر بعظمة خلق الله في الهندسة الكونية والخلقية.