عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب – فتح عيونه على النكبة عام 1948 وعمره لم يتجاوز الحادية عشرة لكن ذكراه القوية اختزنت المشاهد وهو يرى أهله وجيرانه والحي الذي ولد فيه واطراف المدينة التي كان يجوبها اثناء الذهاب الى المدرسة او العودة من رحلة مقررة.. كان عدد سكان عكا الذي ارضعت حليب صمودها لأطفالها منذ صمودها في حملة نابليون ومنذ صمد الجزار فيها وأقام فيها مسجده الشهير .. كان عدد السكان يزيد عن (35) الف نسمة عشية 15/5/1948 لم يبق منهم بعد سياسة التهجير والاقلاع والتخويف الصهيونية سوى ثلاثة الاف تشبثوا بالارض وامسكوا بها واكثرهم لم يقو على الرحيل او لم يستطع .
كان الطفل غازي السعدي واحدا من الذين ظلوا في عكا وبدأت ذاكرته التي اختزنت النكبة والتهويد والاسرلة والاحكام العرفية العسكرية التي فرضها الاحتلال بعد اقامة الدولة الاسرائيلية على المواطنين العرب الذين سمّاهم عرب اسرائيل واخذ يتصرف في ممتلكاتهم واراضيهم وبيوتهم ويصادرها بقوانين جائرة سنها باسم املاك الغائبين واراد الاحتلال تحويلهم كما قالت الادبيات الصهيونية الى حطابين وسقائين ووصل الحد برئيسة الوزراء الاسرائيلية السابقة جولدا مائير ان تتسائل صباح يوم من سنوات الخمسينيات “أين هم الشعب الفلسطيني؟” في حين قال زعيم صهيوني أخر (ان الكبار “يعني الفلسطينيين” يموتون والصغار ينسون) ولكن غازي السعدي واجياله وحتى احفاده الان لم ينسوا ومضوا على دروب الصمود والكفاح كل على طريقته ، اذ ان مجرد بقاء الشعب الفلسطيني على ارضه هو ارقى انواع الصمود والمقاومة التي ما زالت الحركة الصهيونية ممثلة في اسرائيل تحسب حسابها.
في عكا ظل غازي السعدي يؤهل نفسه على درب مقاومة الاحتلال الذي لم يستطع ان يتحمل انخراط الكثيرين من المناضلين الفلسطينيين في صفوف وتنظيمات عديدة مقاومة.
كان غازي السعدي “أبو ايهاب” واعيا لم يخدع بتصريحات قادة الاحتلال منذ بدا فهمه المبكر لها والى اخر التصريحات في عام 2016 حين صرح نتنياهو يثني على دور عرب عام 1948 باللغة الانجليزية في رسالة موجهة للمجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية واوروبا لاظهار كما لو ان اسرائيل دولة ديمقراطية. اذن طوال تلك السنوات ومنذ ابعاده عام 1969 بعد سجن استمر سبع سنوات من اصل مدة هي ضعف ذلك بقي غازي السعدي في عمان يجدد المقاومة بالكتابة والتأليف والدفاع عن الاقلية العربية التي بقيت مرابطة في الجليل والمثلث والنقب وغرب القدس ويقدمها صامدة رغم التشوية الذي لحق بها من اولئك الذين لم يفهموا طبيعة الصراع العربي الاسرائيلي على امتداد الخارطة العربية… كانت مهمة المفكر والكاتب والمتخصص في الشؤون الاسرائيلية هي الدفاع عن فلسطيني الداخل الذين بقوا في وطنهم وتقديمهم للعرب وللفلسطينيين في مختلف أنحاء العالم ولم تكن تلك المهمة سهلة فقد واكب غازي السعدي نضالهم ومعاناتهم ورفضهم للذوبان وطمس الهوية، ودافع عن ثقافاتهم في وجه سياسات الأسر له، وكان غازي السعدي لذلك قد أنشأ دار الجليل للدراسات الفلسطينية التي أنجزت أكتر من 250 كتابا منها (50) من الكتب المترجمة عن العبرية لكبار الكتاب والساسة والمفكرين الاسرائيلين لاطلاع المجتمعات العربية على التفكير الاسرائيلي التوسعي والعدواني، أما الكتب الأخرى فكانت عن القضية الفلسطينية وعن الصراع العربي الاسرائيلي، وقد واكب كل ذلك اصدار غازي السعدي لنشرات تحليلية دورية متعددة توزع بالاشتراك في الداخل والخارج عبر الساحات العربية، وقد حظيت كتاباته وتحليلاته بالتقدير والمصداقية ، وحرصت كثير من المؤسسات العربيه الرسمية وحتى العسكرية والأمنية على الاهتمام بها واقتنائها.
غازي السعدي الذي خبر العقلية الصهيونية وتغيراتها المختلفة وعانى منها وكابدها في السجن وخارج السجن لم تستهوه التصريحات ولا الشعارات ولم يذهب باتجاه اليمين الاسرائيلي ولا حتى اليسار أو غير ذلك من التشكيلات بل بقي على موافقة الوطنية والعروبية الأصلية ، وظل يقدم قضية شعبه بشكل واضح وموضوعي ،كما ظل على رصد دائم لدوافع الاعلام الصهيوني وتوجهاته والتحذير منه.
كان ابو ايهاب نشيطا ذو رأي سديد ومسموع ومواظبا باستمرار فقد زاملته في جريدة صوت الشعب حين كنت رئيسا للتحرير وكان يقدم فيها مقالات وترجمات على الصحف العبرية كما زاملته كاتبا في الرأي لمدة ثلاثين سنة لم يتوقف عن الكتابة فيها الاّ في الفترة الأخيرة حين أقعده المرض فقد استمر الى مطلح هذا العام 2017.
كما أن غازي السعدي امتلك التخصص والمعرفة واللغة العبرية بطلاقة وكان من الخبراء القلائل في التفكير الصهيوني ، ظل ضيفا دائما على برامجي التلفزيونية والاذاعية،ولم تكن تلك البرامج أو غيرها في وسائل الاعلام الأردنية أو العربية أو حتى الاجنبية بما في ذلك الاسرائيلية تستغني عن وجهة نظره، وكان لتنبؤاته الاعلامية والتحليلية المعروفة موقع التقدير عند أصحاب القرار التي كانوا يرون فيها رؤية زرقاء اليمامة بعد أن أدرك الاسرائيليون أن العرب لايقرأون، كما قال موشى دايان وزير الحرب الصهيوني الأسبق الذي كان يعلق على أن اسرائيل نشرت خطة حرب عام 1967 التي حملت النكسة.
يرحل اليوم غازي السعدي أبو ايهاب في رحيل مفجع ، وقد ترك أول مكتبة عربية متخصصة في الشأن الاسرائيلي بهذا الحجم والخبرة والمتابعة، نفتقده اليوم ونفتقد رأيه في خضم هذا الواقع العربي المرير الذي مازالت اسرائيل تهيمن فيه وتقوى وتتوسع وتؤيد احتلالها للضفة الغربية وغزة وشرق القدس منذ نصف قرن من الزمان ومضي حوالي 70سنة على النكبة الاولى واحتلال فلسطين.
سيبقى غازي السعدي حاضرا فينا ككتاب وصحفيين ومفكرين، كما سيبقى حاضرا بقوة في المكتبة العربية في مجال الصراع العربي الاسرائيلي فقد كان مركز أبحاث كبير على المستويين الشخصي والعام، وقد واصل الفقيد الكبير نضالا لم يتوقف بكل الوسائل وخاصة الكتابة والترجمة والتأليف ولم يحترف عملا أو مهنة سوى هذا النضال الذي ظل فيه متفاعلا، فقد كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وخبيرا في مؤسسات البحث ومراكزها الفلسطينية والعربية ومستشارا لكثير منها.
يرحل غازي السعدي اليوم ونفتقده وسيترك فراغا كبيرا خلفه لايملأه أحد، والعزاء في المدرسة التي تتلمذ أفرادها على يده لمن عملوا معه في دار الجليل قبل أربعين سنة وأكثرومنهم مازال على طريقه ومخلصا لنفس الأهداف ويضيق المكان عن ذكرهم.
يبقى أن نتقدم لأسرته الصغيره من أبنائه بالعزاء الحار ولأهل عكا جميعا ولأقاربه في المدينة التي زارها عام 2007 لأول مرة بعد ابعاده وبكى وهو يعيد نفس الخطوات على أرضها أمام مسجد الجزار وعلى البحر وحيث القلعة والمكتبات وبيت الوالد والأهل.
لقد عاد مرة أخرى ليربط جسده وروحه بعكا، ويعيد ربط عكا وهو الذي اقتلع منها بعد سجن وأبعد عنها ولكنه ظل يتطلع الى العودة لها وظل يعد أبناءه بذلك.
لك الرحمة يا أبا ايهاب يا أستاذنا الكبير الذي لم يهن ولم يضعف ولم يجامل في القضية الوطنية بل ظل نااصحا وأمينا ومخلصا.