الإعلام على حقيقته/ فهد الخيطان

الاستقطاب الإعلامي في الأزمة الخليجية أكثر حدة من الاستقطاب السياسي، ويظهر جليا في التغطيات غير المتوازنة للأحداث. لم يكن هذا بالجديد، فقد تبدّى بوضوح في تعامل فضائيات وصحف ومواقع إخبارية مع الأحداث التي يشهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة.

الانزلاق في أتون الأزمات السياسية، والانحياز لهذا الطرف أو ذاك بلغ حد فبركة المصادر الإخبارية والتلاعب بالوثائق واخفاء الحقائق بشكل متعمد، وترويج الإشاعات خدمة لوجهة نظر معينة. وطال التزوير الأشرطة المصورة والأصوات.

وفي خضم الأزمة المستعرة، دخل المحللون والخبراء، وما أكثرهم، على خط الاستقطاب والاستزلام مقابل مكافآت مالية مجزية. وما دام المال حاضرا بوفرة، فيمكن شراء ولاء المحللين، أو تصنيع خبراء جدد كل يوم يرددون كالببغاء ما يطلب منهم قوله.

بيد أن الأزمة الحالية مكّنت الكثيرين من اكتشاف هوية وولاء منصات إعلامية أجنبية أخفت لوقت طويل هوية مالكيها ومموليها. لقد اتضح وبشكل صارخ أن التأثير على توجهات وسائل الإعلام تخطى حدود العالم العربي، ووصل لصحف ومواقع غربية عريقة، دفعت بها الأزمة الأخيرة للكشف عن وجهها الحقيقي.

والحال نفسه ينطبق على كتاب ومحللين “مرموقين” في أوروبا والولايات المتحدة، إضافة إلى مراكز دراسات وأبحاث.

إنها حالة مخيبة دون شك، فبعد فجيعتنا بوسائل إعلام عربية ها نحن نفجع ببعض أقرانهم في الغرب. حالة لم تترك للمتلقي العربي فرصة الحصول على خدمة إعلامية ملتزمة بالحد الأدنى من المعايير المهنية والأخلاقية. خدمة تحترم حق المشاهد والقارئ في الحصول على معلومات وافية والإحاطة بالصورة من كل جوانبها.

لقد تحولت هذه الوسائل لمنصات تشحن الجمهور بالكراهية للآخر، لا بل الشقيق وتحرض عليه، وتزرع الشقاق بين أبناء المجتمع الواحد، ساعدها بذلك إعلام “التواصل الاجتماعي” الذي أصبح بيئة عفنة تعج بخطاب العنف وثقافة الكراهية والاحتراب.

لكن وعلى الرغم من مأساوية الصورة، إلا أن هذا الانكشاف المريع لوسائل إعلام ربما يشكل نقطة تحول في توجهات الجمهور. ولعلها تكون فرصة لإعادة الاعتبار للإعلام الأصيل في العالم، والذي ما يزال يتمسك بالمبادئ المهنية والأخلاقية في تغطياته للأحداث، ويحترم عقول المتابعين في المعرفة الصادقة. وهناك بالفعل عناوين تلفزيونية وإلكترونية لمثل هذا النوع من الإعلام الرزين الذي يعرض الأحداث بصورة منصفة، ويقدم وجهات النظر المختلفة حولها، تاركا للمتابعين حق تكوين الموقف.

هناك هيمنة واضحة لوسائل الإعلام الموجهة من الأنظمة، وما تزال هذه الوسائل قادرة على التحشيد والاستقطاب، مدعومة بتيارات اجتماعية ناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، تمجد الخطاب الطائفي والمذهبي، وتروج للفكر المتطرف.

لكن في الأزمة المشتعلة حاليا بين دول خليجية، يلمس المرء من خلال متابعته لحسابات كثيرة على صفحات “التواصل” وتعليقات ناشطين أن هناك فئات غير قليلة باتت تضيق ذرعا بإعلام اللون الواحد، وخطاب “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، وتسخر من قرارات حجب الخدمة التلفزيونية، وتجريم من يتابع بعض الفضائيات، أو يتعاطف مع وجهة النظر الأخرى، في مفارقة تذكر بما كان يلحق بمستمعي إذاعة صوت العرب في خمسينيات القرن الماضي، دون أن يلحظ هؤلاء أننا في زمن الثورة الرقمية والجيل الرابع.

Related posts

من يدفع فاتورة الحرب وكيف نتعامل مع آثار العدوان؟* حسين الرواشدة

توجهات إيجابية في ميدان الشراكة بين القطاعين العام والخاص* د. محمد أبو حمور

قمة الرياض… قمة فاصلة، فهل تنجح وكيف؟