يصادف هذا الأسبوع مرور (69) عاما على النكبة الفلسطينية التي تمت خلالها سلسلة من عمليات التآمر و الاحتيال أفضت إلى التهجير القسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم، لتحتلها العصابات الصهيونية المهاجرة من أوروبا ،وبتدبير سياسي خبيث ودعم مطلق من بريطانيا ،وبعد ذلك أمريكا وغيرها من الدول ذات التاريخ الاستعماري المعروف.
ورغم مرور هذه الفترة الطويلة، وما رافقها من تغيرات جذرية في العلاقات الدولية على مستوى العالم، وانتهاء عصر الاستعمار، واستقلال جميع المناطق المستعمرة، ورغم تجذر مبادئ حقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، فلا زالت اسرائيل هي “الدولة” الاستعمارية الوحيدة في العالم، ولا زالت تتجاهل القانون الدولي والإنساني، وتعيش ثقافة الانعزال المضاد للجوار، وتعلم الحقد و الكراهية لأطفالها، وتقتل وتحاصر وتمنع الغذاء والدواء عن مئات الآلاف من الفلسطينيين، وتحاصر 2 مليون نسمة في غزة و كأنهم في معتقلات النازي، ولا زال الضمير الإسرائيلي ميتاً ومغيباً؛ لأن الاحتلال والاستعمار الصهيوني لا ضمير له. وسيبقى المستعمر مستمراً في برامجه الاستعمارية رغم ما يدعيه من الآكاذيب، وما يزعمه نتنياهو و غيره حول غياب الشركاء وحول السلام ، في عين الوقت الذي يتم فيها استمرار إضراب مئات الاسرى الفلسطينيين عن الطعام، واعتقال الاطفال والنساء، وقتل المواطن الاردني في شوارع القدس بدم بارد. ولا زالت عقدة الضحية والجلاد تسيطر على العقل الاسرائيلي، وكأن “الاسرائيليين اليهود” لم يكفيهم 69 عاماً من تقمص دور النازي البطيء وقتل الفلسطينيين وتشريدهم بمئات الآلاف، ولم يرووا عطشهم للانتقام من “اناس لم يسيئوا اليهم ابدأ”. وكأنهم يريدون الثأر لكل اضطهادات أوروبا لهم. إن عقلية الادارة الصهيونية تتمثل ،إضافة إلى النهم الاستعماري، في الصراخ دائماّ: “نعم نحن اقوياء، نقتل ونحتل ونحاصر وننتقم، فلا تخافوا ايها اليهود، فلن يتكرر الماضي”.
وها هو نائب رئيس الكنيست بتسلئيل سموتريتش زعيم المستوطنين، و كما نشرت جريدة هآرتس، ينفس عن لا إنسانيته حين يصرح “بأنه ليس أمام الفلسطينيين سوى واحد من ثلاثة . (1) القبول بأن يعيشوا كما هم صاغرين صامتين دون حقوق. (2) أو الطرد الجماعي. (3) أو الابادة الجماعية الكلية.وهكذا فإن روح الانتقام العنصرية الدموية لا زالت تملأ رؤوس القيادات اليمينية و تنتقل إلى الشارع، وتغطيها من آن لآخر بمقولات توراتية لا قيمة لها تسير في الاتجاه نفسه.
وبالتـأكيد ما كان لاسرائيل أن تحقق هذه الانتصارات المتتالية لولا أسباب اربعة رئيسية، الأول الدعم المطلق من الولايات المتحدة الامريكية والدول الاستعمارية التقليدية باعتبار أن ما تقوم به اسرائيل ينسجم تماما مع تاريخ امريكا وتاريخ الاستعمار الاوروبي. الثاني الدهاء والخبث و العلم والوسائط السرية والمالية والاعلامية التي تدعم العمل الصهيوني الاسرئيلي، الثالث الانقسامات الفلسطينية وغياب الوعي والدهاء السياسي لدى القيادات و تأثير الحالة العربيه، الرابع تخلف المنطقة العربية، واعتمادها المتزايد على امريكا واوروبا، والانقسامات العربية، والانهماك في بناء انظمة الحكم بدلا من الدول المستقرة.
واذا كان الدعم الامريكي والبريطاني لاسرائيل من غير المتوقع أن يتغير جذرياً في المستقبل القريب والمتوسط، كما أن الدهاء والخبث والسيطرة المالية والاعلامية لليهود والصهيونية غير المتوقع أن تتراجع خلال سنوات قليلة، فإن المستقبل الذي يمكن أن يتطلع اليه الفلسطينيون والعرب ينبغي أن يكون باتجاه تغيير جذري في التعامل مع الموضوع الفلسطيني والعربي على حد سواء. وتغيير وسائل الاستعداد لما ينتظر المنطقة من أحداث اثبتت الايام أنها غاية في الخطورة، إلى الدرجة التي أصبحت الخرائط المتوقعة أو المقترحة للمنطقة تتوالى كل فترة واخرى.وانغمست الشعوب في صراعات داخلية و نزاعات مذهبية، بتأثير هبوط التعليم وانحدار الثقافة، وفقدان الديمقراطية والمواطنة والعدالة، و تدخل القوى الأجنبية بما فيها اسرائيل. كل هذا يتطلب منهجاً جديداً للعمل الفلسطيني والعربي و في مقدمة ذلك أولاً: انهاء الانقسامات الفلسطينية والخلاص من حالة التشتت والتفتت، وان لا يأتي ذلك متأخراً كما هي حالة فتح وحماس، أو وثيقة حماس الجديدة .فالاجراءات المتأخرة في عصر سريع الحركة تفقد قيمتها ودورها .وثانياً: أن تدرك الأقطار العربية وخاصة المجاورة لاسرائيل أن الوحش الاستعماري الاسرائيلي لا تقف اطماعه عند الحدود التاريخية لفلسطين، بل انه يطمع في اراض مجاورة ،وسيلجأ هذا المستعمر إلى شتى الاساليب لتحقيق ذلك، وأهمها المساهمة في تفتيت دول الجوار، واستغلال الضعف السياسي والاقتصادي والعلمي، وتغذية الطائفية والمذهبية والجهوية وخاصة في (4) دول عربية مجاورة هي: الأردن وسوريا ولبنان ومصر. وثالثاً: العمل العربي على إنهاء حالة الصراع والاقتتال الداخلي في كل بلد ، ووقف الاعتماد على الأجنبي لبقاء نظام الحكم قائماً، وان تكون الحلول سياسية، والتنازل فيها من جميع الاطراف. والتوجه نحو بناء دولة وطنية متقدمة قادرة على الاعتماد على نفسها، والتعاون بحرية و ثقة مع الدول العربية الأخرى،
إن الاستراتيجية الاسرائيلية في التوسع لم تتغير، وترتكز إلى محورين اساسيين الاول الاستمرار في قضم الأراضي الفلسطينية و تضييق الخناق على الفلسطينيين حتى يصبحوا مجرد تجمعات سكانية بلا أرض. والثاني جر الدول العربية المحيطة و التشبيك معها في مشاريع اقتصادية استراتيجية مفصلية مثل المياه والطاقة والنقل والعمالة.، تجعل الموضوع السياسي بالنسبة لهذه الدول الأربع، وخلال سنوات محدودة، مسألة ثانوية.
إن الخطر الاسرائيلي لا زال قائماً وعلى الفلسطينيين الاستمرار بالصمود و النضال، و على العرب اعادة حساباتهم حتى لا يفاجئهم المستقبل بما لم يستعدوا له.