الحكومة والمبادرات…. متـى يبـدأ العمـل ؟ /د. إبراهيم بدران

من أين تستمد الدولة أفكارها ومبادراتها؟ سؤال طالما طرحه المواطن ليتعرف كيف تفكر االحكومات، ومتى تبادر وتتحرك للعمل.ما يسمعه في وسائط الإعلام صباح مساء: “وضع الخطط” و”تحديث الاستراتيجيات” و”إعداد التقارير” و”مراجعة البرامج” و”تنقيح السياسات”، وعشرات العبارات المماثلة. ولكن، ما يلمسه المواطن على الأرض أقل من ذلك بكثير و بالكاد يشعر به، والحركة ابطأ من السلحفاة ،باستثناء ما يتعلق بالأسعار والرسوم و الضرائب فالحركة فيها سريعة و متواصلة .

في الدول الديموقراطية تستمد الدولة أفكارها، وتستلهم مبادراتها ،من خلال الأحزاب المنتخبة ذات البرامج الوطنية و التي تصل إلى السلطة بالتداول، و تحمل معها خططها وتبادر إلى تنفيذها لكي تضمن نجاحها في الانتخابات القادمة. وكذلك من خلال الجامعات ،ومراكز الأبحاث والدارسات المتخصصة، ومجامع التفكير، ومن خلال المستشارين من العلماء والخبراء والمتخصصين الذين ينتشرون في مختلف المؤسسات، ابتداء من مكاتب رؤساء الوزرات وانتهاء بأي شركة أو مؤسسة.

ولكن الأمر مختلف لدينا. فلا هذا ولا ذاك، ولا هذه ولا تلك موجود. ويبقى المستشار الأجنبي الذي يرتبط وجوده بالمساعدات، وينتهي بانتهائها في اغلب الأحيان. وهكذا سنة بعد سنة، والمؤسسات الرسمية تدور في الحلقة نفسها وكأن كثرة الكلام عن العمل تغني عن العمل نفسه. أين تنمية المحافظات التي تم إنشاء صندوق لها منذ سنوات؟ اين المشاريع الإنتاجية التي انتشرت في المحافظات؟ بل اين الميثاق الوطني و ما ورد فيه عن تطوير الحياة السياسية و الاقتصادية ؟ اين الأجندة الوطنية ؟ اين و ثيقة كلنا الأردن؟ أين التنمية السياسية التي لها وزارة متخصصة منذ 15 سنة؟ أين الأردن 2020 والأردن 2025… اين ؟؟. حتى الأوراق والرسائل الملكية التي تتحدث بوضوح عن ما يجب أن يتحقق وامتدت على 5 سنوات،غالبا ما يطغى الجانب الإعلامي عليها، ويستمر الحديث عنها لفترات طويلة أو يجري نشرها أو جعلها من المفردات الدراسية . ولكن التنفيذ غائب وكأنها لم تصدر، على الرغم من أن ما ورد فيها ليس موضع خلاف.

و لنأخذ مشكلة النقل .هل يعقل ان لا يكون قد تم تنظيمه على أسس حديثة من خلال شركات نقل منظمة و شبكات سكة حديد و أنابيب نفط تشارك فيها الدولة بدلا من النقل الفردي الذي يستهلك سنويا 42% من الفاتورة النفطية؟، النقل في العاصمة .سنوات وسنوات ونحن نقترب ونبتعد، نريد الباص السريع، أو الباص البطيء ،أو المترو أو القطار، حتى أصبح النقل أزمة اقتصادية وبيئية واجتماعية قاسية. و سكة الحديد، اصبح البعض يتحدث عن خط حيفا -اربد بدلا من العقبة -عمان –اربد.

بنك الإنماء الصناعي.. هل نعيده أم لا نعيده؟ سنة بعد سنة ،والصناعات تتعثر، وتمويل البنوك يتعقد أمام صغار و متوسطي المستثمرين، ونحن نفكر بتحفيز الاقتصاد الوطني وتحريكه وزيادة معدلات نموه.. الشركات المتعثرة هل نتركها تغلق أبوابها، أم نتقدم خطوة في اتجاه الحل؟ والمصانع التي أغلقت، والاستثمارات التي خرجت ،هل تتدخل الحكومة أم لا تتدخل؟ وهل تعيد المستثمرين أم لا؟ المواطن لا يجد إجابات واضحة أو مقنعة، و البرلمان يغير رأيه و موقفه بين الصباح و المساء.

لقد ارتكزت حملة الرئيس دونالد ترامب على رفضه واستنكاره لخروج 70 آلف مصنع من امريكا إلى الصين وغيرها من دول شرق آسيا (و هذه بنسبة السكان تعادل 1400 مصنع في الأردن)، واعتبر ترامب أن ذلك ساهم في زيادة البطالة في بلاده. واليوم بدأت الشركات الأمريكية ترجع ،والمصانع والمناجم المغلقة أعيد تشغيلها في الولايات المتحدة، فانخفضت البطالة إلى الرقم الاعتيادي 4% بعد أن كان 7.5%. لماذا تتدخل حكومة ترامب الرأسمالية ذات الاقتصاد الحر لإعادة الاستثمارات وحل مشكلات صناعاتها، بينما تغض الحكومات عندنا النظر و كأنه لا علاقة لنا بالموضوع فيما يخص مصانعنا وشركاتنا؟ وقد وصلت البطالة لدينا 15.6%.

الآن يدور الحديث عن خطة التحفيز الاقتصادي، و هذا جيد إذا تحول إلى عمل فعلي. و لكن هل يمكن أن يكون هناك تحفيز حقيقي قبل أن تحل المؤسسات الرسمية المشكلات العالقة؟ هل يمكن أن يعود المستثمرون اذا لم تتعامل معهم إدارة متفهمة لمتطلبات الاستثمار ،و لم يجدوا تشجيعا للإنتاج المحلي؟ هل يمكن تحفيز الاقتصاد دون حل مشكلات القطاع الزراعي وتطوير هذا القطاع وتصنيع حلقاته المختلفة وأهمها مدخلات الإنتاج، والمنتجات النهائية؟ .إذ لا يوجد قطاع زراعي مستقر في أي بلد يعتمد على السلعة الطازجة فقط. انظروا بلغاريا وايطاليا وامريكا ماذا تفعل بالمنتجات الزراعية؟ وما دور الصناعات الكبرى في إنشاء المشاريع الصغيرة الجديدة ذات العلاقة بمدخلاتها ومخرجاتها. هل المسألة صعبة لهذه الدرجة ؟أن نستفيد من تجارب الدول الأخرى؟

أن انتظار المساعدات و توقع المنح أو اللجوء إلى الاقتراض لكي نحل مشكلات الخزينة فقط هو طريق مسدود. فالثروات الصغيرة المتاحة بين الناس يمكن أن تكون بداية جيدة اذا اطمأن الناس لحسن الإدارة والشفافية والإرادة الحقيقية لدفع الاستثمار و حمايته، والأفكار المبدعة لتحفيز الاقتصاد.

و “ريثما يتم وضع خطة التحفيز بشكلها النهائي” لتبدأ كل وزارة ومؤسسة و بالتعاون مع الشركاء من القطاع الخاص و الأكاديميا و منظمات المجتمع المدني،وخلال 3 أشهر بحل (25) مشكلة أساسية تعترض العمل والاستثمار في قطاعها، وتضيع وقت المواطن والمستثمر على حد سواء”. و إذا نجحت الحكومة في مثل هذه المهمة فإن ذلك كفيل ببناء جسر الثقة المفقود.

في غياب الحكومات الحزبية البرامجية المنتخبة ،فإن المبادرة و الجرأة و الاستعانة بالخبراء والشركاء، والاستعداد لتحمل مشقة الإصلاح و التغيير و الإبداع تصبح الطريق الوحيد للمسؤول لكي يقوم بدوره الوطني . إن آفاق العمل واسعة ،و صناعة المستقبل الأفضل ممكنة . ولكن المطلوب رؤية واضحة، وإرادة صادقة ،وتعاون مع مختلف الأطراف الوطنية، وانتفاضة مسؤولة في الجهاز الرسمي للنهوض بالمسؤولية.

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات