الأخلاق العامة… والكلفة الاقتصادية /د. إبراهيم بدران

سؤال اثاره الباحثون: هل هناك قيمة اقتصادية للاخلاق؟ أم أنها مجرد مسألة إنسانية إجتماعية ودينية؟ وهل هناك قيمة مضافة حقيقية للسلوكيات الإيجابية التي يمارسها الفرد والجماعات والمجتمعات؟ و الاجابة: نعم. “الأخلاق والسلوكيات تحمل قيما اقتصادية لا يمكن تجاهلها” .و كلما ارتقى المجتمع وتقدم ارتفعت الكلفة وزادت القيمة المضافة. والعكس صحيح. فالمجتمعات الأكثر بدائية هي الأقل تفاعلا وتأثيرا متبادلاً بين الاقتصاد من جهة، والأخلاق والسلوكيات من جهة أخرى.

نقول ذلك ونحن امام مشهدين من مئات .الأول: “وقف قبول بعض الخضار الاردنية في دولة الامارات العربية وقطر ثم الكويت بسبب وجود بقايا مبيدات حشرية على تلك الخضار”. و الثاني “مشروع سكن كريم ،الذي كان الهدف منه مساعدة محدودي الدخل للحصول على سكن مناسب، فتحول إلى مبان متصدعة وخدمات متقطعة وافتقار لأبسط متطلبات المعيشة الآمنة.” والسؤال: هل يعقل أن لا تكون هناك رقابة مؤسسية كافية على الخضار والفاكهة و سائر المنتجات الزراعية بالذات وغيرها ،نظراً للتأثير المباشر على صحة الإنسان بما فيها صحة الإنسان الاردني، ونظرا للضرر الاقتصادي الاجتماعي الهائل الذي يتركه التساهل في هذه المسائل؟ و هل يمكن أن يكون التراجع الأخلاقي وراء غض النظر عن وجود المبيدات؟ و هل كان الغش في “سكن كريم” بعيداً عن الانحدار ؟ ألا يعتبر هذا و ذاك برهانين على السلوكيات المعوجة التي لا تلتزم بمواصفات ولا متطلبات؟ أليس الجميع شركاء في هذا الإعوجاح ابتداء من المقاول ومروراً بالمشرف والفني الذي كان ينفذ وانتهاء بالذي تناول البضاعة أو تسلم المشروع؟ كم هي الخسائر التي ترتبت على هذا الخطأ و الإهمال للمزارع وللقطاع الزراعي، وللمواطن ولقطاع الإنشاءات نتيجة الغش في التصميم والتنفيذ والاشراف والتسليم؟

ولكن هل نتوقع الالتزام الكامل بالسلوكيات السوية وبالمواصفات المكتوبة والتي تعتمد على “أمانة الشخص المعني” اذا كانت منظومات الأخلاق و التربية والتعليم والثقافة نتيجة للفساد، تعاني من التراجع والهبوط في المنطقة العربية بأسرها ونحن منها؟

عند الحديث عن الصدق والامانة، والاخلاص والالتزام والعمل، والثقة والتقيد بالقانون و الالتزام بالتعليمات والمواصفات، والشعور مع الآخر ،والاهتمام بالنظافة، والبيئة ،وعدم الغش والخداع والغبن ،وغير ذلك من اخلاق وسلوكيات، نلاحظ أن المنطقة العربية تشكو من تراجع هذه القيم بشكل كبير وعلى شتى المستويات طولا وعرضا،على الرغم من أنها تدخل في صميم العملية الاقتصادية من إنتاج إلي تسويق إلى تصدير.هذا بينما نجدها عموماً بحالة أفضل تماما في أوروبا واليابان وسنغافورة وامريكا وغيرها. ومنذ اكثر من 170 سنة اشار “رفاعة الطهطاوي” إلى الأخلاق في أوروبا وغيابها في المشرق. و رغم مرور السنوات و انتشار التعليم و المدارس و الجامعات في كل مكان، فإن الأمر يتراجع يوما بعد يوم. والسؤال هنا: هل يمكن أن تتقدم الصناعة والزراعة والسياحة والهندسة والطب وتستقيم الخدمات، ويتحول المجتمع إلى مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة دون حدوث تقدم وارتقاء جذري في الاخلاق والسلوكيات من جانب الأفراد ومن جانب المسؤولين؟ ألم تتغير الأخلاق والسلوكيات المجتمعية في كوريا وسنغافورا وماليزيا والصين عن ما كانت عليه قبل 60 عاما او أكثرعندما تغيرت سلوكيات الإدارات وتطورت التربية والتعليم و الثقافة؟

ألا يعتبر انتشار الفساد والواسطة والمحسوبية والقرباوية والتنفيع والاسترضاء و عدم الإخلاص للوطن جزءا من فساد الاخلاق الفردية والمجتمعية ،واعوجاجاً في السلوك وخروجاً عن الالتزام بالقانون ومدونات السلوك وأخلاقيات المهنة والوطنية؟ ؟. هل هناك فرق بين لص يسرق خروفاً من راع بسيط، وبين استاذ جامعي يسرق الابحاث من غيره؟وهل هناك فرق بين شخص مخادع وكذوب وبين سياسي يخدع مواطنيه ويوهمهم بالوعود الكاذبة؟ هل هناك فرق بين قاتل يعتدي على اطفال صغار فيذبحهم، وبين عامل أو فني أو مدير يستخدم مواد قاتلة ومسرطنة في المنتجات الغذائية التي يصنعها؟ لا فرق ابداً. وهل هناك فرق بين محتال يتكسب من الغش والخداع ،وبين موظف أو عضو مجلس إدارة يتقاضى راتباً دون أن يعمل بما يساوى ذلك الراتب؟ لا فرق ابداً… الأول عديم الاخلاق سيء السلوك ،والثاني كذلك. لماذا يحاسب رئيس وزراء في فرنسا على “توسطه” في تعيين شخص في موقع لا يستحقه؟ وهم لا يتغنون بالاخلاق كما يفعل العرب في حين تخسر المنطقة العربية اكثر من 10 إلى 15% من الناتج المحلي لكل بلد بسبب الفساد، الذي هو قمة تدني الأخلاق و سوء السلوك؟

ما الذي يدفع اليابان كبلد متقدم وصناعي ودخل الفرد فيه يتجاوز 37 الف دولار سنوياً إلى تخصيص السنوات الثلاثة الاولى في المدرسة للتركيز على الاخلاق وبناء الشخصية وضبط السلوك وحب اللغة و القراءة والتعلم و النظافة و التعاطف مع الآخرين وتذوق الفنون وعمل الفريق الواحد؟ يفعلون ذلك رغم انهم ناجحون في هذه الصفات و السجايا بدرجة جيدة. ما الذي يجعلهم يقدمون التربية والاخلاق والسلوك على “تعليم المواد” منذ السنة الأولى للمدرسة؟ يفعلون ذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية و انسانية ووطنية مستقبلية. فالطفل الذي تجري تربيته و بناء شخصيته اليوم ،سيصبح هو نفسه العامل والفني والطبيب والسياسي والمثقف والعالم و المخترع و الفنان بعد 20 أو 30 سنة .

إن المنطقة العربية توظف بالمتوسط 25% من القوى العاملة، ولا تتعدى انتاجية الموظف فيها 20% بالمقارنة مع نظيره الاوروبي والامريكي والسنغافوري والصيني و غيرهم.و يعود جزء كبير من تدني الإنتاجية إلى شيء من الغش و الخداع و الإهمال و غياب القدوة .ومؤدى ذلك اننا في الاردن نخسر نتيجة لغياب الواعز الاخلاقي والضابط السلوكي لدى موظفي الحكومة فقط ما يقرب من 2 مليار دينار سنوياً، أو ما يعادل 7% من الناتج المحلي الاجمالي، ونخسر ما يساويها في الصناعة والزراعة والسياحة.هل هناك فرصة “للتقويم و التصحيح الأخلاقي و السلوكي تلقائيا؟ هناك شك كبير”.

هل يمكن أن نقبل اقتراحاً ونحن في اطار اصلاح التعليم و الخروج من الترهل و الفساد، ورفع مستوى الموارد البشرية بأن “ تلتزم الحكومة بأن تكون قدوة للمواطن في السلوك، وفي الوقت نفسه نخصص السنتين الأوليين في المدرسة والفصل الأول في اي معهد وجامعة للتربية والاخلاق والسلوك و بناء العقلية العلمية و الشخصية الوطنية والالتزام بالقانون وعمل الفريق،و تعمل الثقافة و الإعلام على دعم ذلك؟” هل يمكن أن نستفيد من التجارب الغنية في البلدان المتقدمة؟ تلك هي المسألة.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري