بماذا كان يُفكر بشار الأسد حين أعطى الأمر باستعمال السارين؟ الرجل كان على وشك أن ينجو، قبل فعلته الأخيرة! وذهول العالم لم تقتصر أسبابه على مشاهد الأطفال المختنقين بالغاز، انما شملت استحالة تفسير الفعلة بالمعطيات المباشرة. فحين يُقدم «المنتصر» على حماقة غالباً ما تصيب المهزومين، يحيلنا ذلك إلى ضرورة إعادة النظر بمضمون «الانتصار». فهل كان الأسد على وشك الانتصار، وأعادته فعلة السارين خمس سنوات إلى الوراء؟
الأرجح أن كثيرين ساورتهم شكوك بما جرى في خان شيخون. صحف عالمية أرسلت مراسلين متخصصين للتحقق، وهؤلاء كتبوا أن ما جرى هو أن طائرة ألقت بقنابل محملة بغاز السارين على مدنيين. لا مجال للشك، قال مراسل «فيغارو» الفرنسية، ومنظمة «حظر استعمال الأسلحة الكيماوية» قالت إن التقارير تثبت ذلك. إذاً العودة إلى السؤال الأول ضرورية. بماذا كان يُفكر بشار، حين أعطى الأمر؟
يفترض هذا السؤال أننا حيال سياقٍ منطقي من الأفعال، لكن العودة إلى أداء الرجل طوال سنوات المحنة تطيح أي محاولة للتفسير. فمنذ اليوم الأول للثورة، كان جواب النظام الوحيد قتل الأطفال لمعاقبة آبائهم. لقد نسينا ونحن نطرح هذا السؤال ما جرى في درعا عشية انتفاض أهلها في 2011. هل كان ما جرى في حينه منطقياً؟ ففي ذلك الوقت أجاب مسؤول أمن المدينة وفداً من أهلها جاء مطالباً بمحاسبة المسؤولين عن مجزرة الأطفال: «سنساعدكم على إنجاب بديل عن الأطفال الذين خسرتموهم».
اليوم، الثورة لم تعد ثورة. صارت حرباً. كما أنها لم تعد سوريّةً، بل صارت حرباً شبه عالمية في سورية. اذاً المشهد أكثر إغراء للانتقام. والنصر الوشيك لا يشفي، بل يُغري بالانقضاض على المهزوم. السارين يحوي قدراً من الضغينة التي تخنق صدر منتصر مزعوم. السياسة لا تصلح لتفسير الخطوة. الغرائز ليست سياسة، وشعور الطاغية بأن اللحظة مناسبة للانقضاض، لن يحد منه احتمال عودة العالم إلى بعض رشده. ها هم أعداء النظام «المنتصر» تحت أنظار الطائرة المغيرة. قائد الطائرة يعاين تعبهم عن قرب. لا شيء أكثر إغراء من قتلهم بالسارين. المادة لا تفني أجسادهم. تثبتها بصفتها جثثاً مكتملة سحبت منها أرواح أصحابها. والأطفال أول من يموتون. هل من نهاية أكثر منطقية من خان شيخون لحكاية بدأت من درعا.
السؤال عن دافع الطاغية «المنتصر» للإقدام على خطوة تكاد تطيح انتصاره، يبدو بلا قيمة. لم يأت أحد بجواب شاف وموثق عن الدافع. الجريمة موثقة، لكن الدافع إليها اقتصر على تفسيرات تتراوح بين توقعات واحتمالات. قال البعض إن الرجل منفصل عن الواقع، وقال بعض آخر إن القرار لم يعد بيده. وفسر آخرون الخطوة الغامضة بالخلاف الروسي – الإيراني على تصدر النفوذ السوري. لكنّ أحداً لم يعد للواقعة الأولى، ولم يستنتج أن شعور الطاغية بأنه نجا من مجزرة درعا، ثم من مجزرة دوما «السارينية» أيضاً ومن مئات المجازر الموازية، يرشحه لـ «خطوة» كهذه.
أخذ القرار لا يبدو ذا قيمة في تفسير ما جرى في خان شيخون. القيمة الفعلية لما جرى أن النظام يخوض حرباً تتقدم فيها الغريزة على السياسة وعلى الحسابات والمصالح. الدافع الفعلي من وراء القصف بالسارين غريزي. والمجدي هنا هو البحث عن مسار تشكل هذه الغريزة، وعن اندفاعاتها ووجهاتها. السياسة بوصفها إدارة للمصالح لا تفيد في فهم ما جرى. يجب العودة بها إلى ما قبل المصالح، أي إلى وعي الطاغية بضحاياه، وشعوره بامتلاك الحق في سحب أرواحهم من أجسادهم. يجب أيضاً تفسير ما جرى بقول مسؤول البعث في درعا في اليوم الأول: «أنجبوا أطفالاً غير الذين قتلناهم». ويجب تفسيره بعلاقة البعث بالكيماوي! فهل تذكر أحد البعث في العراق، ووقائع حلبجة والأنفال، في سياق البحث عن جواب لسؤال خان شيخون؟ هل اقترح أحد علاقة بين الواقعتين، لا سيما وأن بعثاً ما وراءهما؟ البعث هنا بصفته تزويج حداثة طاغية لماضوية متخلفة يدعي بعثها. الشعور بالاستحواذ على أرواح «الرعية»، وامتلاك الحق بحقنها بغاز السارين.
الانتروبولوجيا أيضاً لها حصة في تفسير ما جرى، فالسلاح الكيماوي في العراق فرز «علي الكمياوي»، أي ابن عم صدام حسين علي حسن المجيد، فلماذا لم تُفرز سورية حتى الآن «كيمياويها»؟ الأرجح أن وراء هذا الفارق فروقاً أنتروبولوجية.
القتل بالسارين يختلف عن القتل بالبراميل المتفجرة، وإن كانت نتائج القتل الأخير أفدح. فالسارين يجعل من القتل الفعلي قتلاً رمزياً أيضاً. القتلى الذين تخلفهم البراميل مزهوقو الوجوه، والجثة في وعي القاتل تمحو صاحبها. السارين يُبقي صاحب الجثة كاملاً في جثته، والأطفال أول من يموتون. الموت هنا عارٍ وشامل، وهو لا يُصدق لشدة وضوحه، وهوية صاحبه لا تشوبها شائبة.
ليس هذا من قبيل تأويل الجريمة أو ترميزها والذهاب في تفسيرها إلى ما هو أبعد منها. إنها الجريمة منظوراً إليها بغريزة الناجين من أمثالنا. فهل من شيء أصدق من مشهد طفل يختنق؟
البعث أراد لنا أن نعاين ذلك عن كثب، واختار، قبل أن يُعلن انتصاره بعد أن قالت أميركا إن اسقاط النظام لم يعد أولويتها، أن يُعطي درساً بهذا الوضوح لمن ظن أن بإمكانه أن ينتفض عليه. مهمة البراميل كانت قتل الناس قبل تقدم الدبابات، أما مهمة غاز السارين فتثبيت مشهد اختناق طفل لم يُصب جسمه بأي شظية، بصفته مصيراً وأفقاً لأي شخص يشعر بحقه في الانتفاض.
أما قياس ما جرى في خان شيخون سياسياً، فمن المفترض أن يذهب إلى مسؤولية العالم عن إهمال هذا الاحتمال. فالنظام الذي استعمل السارين قبل أكثر من سنتين في دوما، عاد واستعمله اليوم في خان شيخون على رغم ادعائه تدمير مخزونه من هذا الغاز. النظام اعترف في حينه بامتلاكه هذا الغاز، والأمم المتحدة أشرفت على إتلاف كميات منه سلمها لها. وليست الوقاحة وحدها ما دفع مسؤوليه إلى نفي حيازتهم ما اعترفوا أمام العالم بحيازته، ففي حينها نجا النظام بفعلته، وهو اليوم يُكرر فعلة كان نجا منها.