واحدة من أهم المشكلات التي يعاني منها الأردن وتؤثر على مستقبل أبنائه هي التعليم الذي تراجع خلال العقود الماضية، بسبب عدم مواكبته التطورات التي حصلت على مستوى العالم، كما لم يلتحق بسياق التعليم المعرفي، ولم يركز على بناء العقلية النقدية، ولا على العلوم التي ظهرت، خصوصا خلال العقدين الأخيرين وما يتصل منها بالتقنيات والتطبيقات والاتصال، فيما بقي واضعو استراتيجيات التعليم مصرين على التلقين كمبدأ وحيد للتعليم.
اليوم، ثمة أزمة مجتمعية تتفاقم نتيجة تردي التعليم العام ومستوى مخرجاته، ما يجعل خريجيه ضعيفين، وليست لهم فرص في المنافسة على الأعمال والوظائف نتيجة رداءة المخرجات التي “حظي” بها الطلبة، فهي منحتهم شهادات بالحد الأدنى من الأدوات التي تمكنهم من حجز مقاعد لهم في الوظائف والفرص.
التعليم الجيد كان سبيل الناس لتقليص الفجوة الاجتماعية والانتقال صعودا بين الطبقات، وكان التعليم الحكومي، في زمن سابق، قادرا على تخريج طلبة مؤهلين للمنافسة، في ظل فجوة معقولة بين المدارس الخاصة والحكومية.
بيد أن ارتفاع كلف التعليم الخاص إلى مستويات خيالية، في بعض الأحيان، بالتزامن من تراجع التعليم الحكومي، أدى بشريحة واسعة ما تزال تعتمد على التعليم الحكومي إلى قتل آمالها في التنافس على وظيفة مهمة، كون الإمكانيات والفرص المطلوبة لا تتوفر لديهم حكما.
التعليم الذي يتحصل عليه المرء، بات اليوم حاسما في تحديد مستقبله ورسم حياته واشتراطاتها، وأي تفكير عقلاني سيؤكد أن التعليم هو السبيل لحياة أفضل والطريق لبناء مجتمعات حية، وبدون تعليم محترم ستبقى الأجيال على هامش الأمل.
الملك يؤكد على ذلك في ورقته النقاشية السابعة التي حملت عنوان “بناء قدراتنا البشرية وتطوير العملية التعليمية جوهر نهضة الأمة”، فحين ننظر إلى الدول التي استطاعت بناء مشروعها الخاص وتحقيق التنمية والرفاه، سنكتشف كيف أنها استطاعت تحديث وإصلاح نظامها التعليمي قبل ذلك، لتفرز بعدها عددا كبيرا من العلماء والخبراء الذين تولوا مسألة البناء والتقدم.
الملك في ورقته النقاشية قال لنا ما يحلم به، وشرح مدى تقديره لتطوير العملية التعليمية وتأثير ذلك على الأردن، وكتب بالحرف “نرى مدارسنا ومعاهدنا المهنية وجامعاتنا مصانع للعقول المفكرة، والأيدي العاملة الماهرة، والطاقات المنتجة. نريد أن نرى مدارسنا مختبرات تُكتشف فيها ميول الطلبة، وتُصقل مواهبهم، وتُنمي قدراتهم. للمشاركة في رسم الوجه المشرق لأردن الغد؛ طلبة يعرفون كيف يتعلمون، كيف يفكرون، كيف يغتنمون الفرص ويبتكرون الحلول المبدعة لما يستجد من مشاكل، ويعرض من عقبات”.
المستقبل، كما نحلم به، لن يتحقق كما يرى الملك إلا بمناهج دراسية تفتح أَمام أبنائنا وبناتنا أبواب التفكير العميق والناقد؛ تشجعهم على طرح الأسئلة، وموازنة الآراء، وتعلمهم أَدب الاختلاف والحوار، وثقافة احترام التنوع، وتنمّي فيهم ملكة النظر والتدبر والتحليل، وكذلك بمعلمين يمتلكون القدرة والمهارة لإعداد أجيال الغد.
الملك قالها صراحة إنه لم يعد من المقبول، بأي حال من الأحوال، أن نسمح للتردد والخوف من التطوير ومواكبة التحديث والتطور في العلوم، أن يهدر ما نملك من طاقات بشرية هائلة. كما بين أنه من غير المقبول، بل من الخطير، أن يتم الزج بالعملية التعليمية ومستقبل أبنائنا وبناتنا في أي مناكفات سياسية ومصالح ضيقة، غير آبهين بأهمية وضرورة استمرار التطوير والإصلاح وأثره العميق على أمتنا وحاضر الأجيال ومستقبلهم.
الحديث عن تعديل الكتب المدرسية وتطوير عملية التعليم لتحسين مخرجاتها المحزنة، جاء على ضوء كارثية نتائج امتحانات الرياضيات، وأكثر من 100 ألف طالب في الصفوف الأساسية الأولى أميين، و90 % من الطلبة لا ينجحون في اللغة الإنجليزية رغم أنها تدرس من الصف الأول.
ولم تقنع الكوارث السابقة وأحوال طلبتنا المحزن فريقا بعدم الوقوف في وجه التطوير بحجج فارغة ومبررات سطحية، رغم أن بعض النتائج السابقة، وليس كلها، كفيل بتجنيد الجميع للمضي في معالجة التشوهات وليس الوقوف في وجهها.
أبناؤنا على مقاعد الدراسة، وأجيال من الشباب دفعت ثمنا باهظا لتراجع التعليم، وها هم يتخبطون اليوم بحثا عن وظيفة أو مهنة لم تسعفهم سنوات تعليم تفوق 15 سنة من الحصول عليها، وكلما تأخرنا أكثر كان الثمن أكبر وصارت الفجوة أوسع. صحيح أن الفتق أصبح كبيرا ومن الصعب رتقه.. لكن ذلك ليس مستحيلا.