لم تعد الشعوب والمجتمعات العربية تنتظر خطابات الزعماء في القمم العربية، ولم تعد تنطلي عليها البيانات والمواقف الرنانة، كما كانت عليه الحال قبل عقود. أصبح الناس أكثر واقعية وإدراكاً بأنّ هنالك “سنناً” وقوانين تحكم الدول وأوضاعها وموازين القوة والضعف، لذلك لم يكن هنالك، في الأصل، سقف توقعات مرتفع من قمّة عمان ولا القمم السابقة.
ربما هذه القناعة الشعبية، بحدّ ذاتها، هي تطوّر ثقافي ومجتمعي مهم، لأنّ ثقافة انتظار المخلّص (والمهدي وسوبرمان العرب، والزعيم الملهم والقائد التاريخي، وصلاح الدين القرن العشرين- أيّاً كانت الخلفية التاريخية والرمزية والثقافية التي تقف وراء المصطلح) كانت أحد أركان التخلف والفهم الخاطئ للعمل السياسي والخلط بين العواطف والشعارات والمواقف الواقعية والسياسية.
كانت الشعوب العربية تغطّ في أحلام غير واقعية وتعيش في عالم الخيال، خلال العقود الماضية، أقدامها في السماء ورأسها على الأرض. مثل تلك الحالة مكّنت الخطابات الشعبوية العاطفية من “خديعة” الناس، وربما الأكثر طرافة – على قاعدة شرّ البلية ما يضحك- أن الزعماء أنفسهم صدّقوا تلك الأكاذيب وانجّروا هم كذلك وراء الخطابات الشعبوية، أو علقوا في حبائلها، فجرّوا علينا كوارث كبيرة.
عندما نعود ونقرأ، مثلاً، ما كتبه محمد حسنين هيكل نفسه – مستشار جمال عبد الناصر وصديقه المقرّب- في كتابه “الانفجار” عن حرب الـ67، تصاب بصدمة شديدة لحجم الفجوة الكبيرة بين الخطاب الإعلامي والسياسي الشعبوي، الذي كان يُغرق به ناصر الشارع العربي، والوقائع المريرة والوثائق التي تكشف حجم الخلافات السورية والمصرية من جهة، والعربية عموماً من جهةٍ أخرى، وغياب أي استعداد عسكري حقيقي لتلك الحرب التاريخية المفصلية!
بالعودة إلى محاضر الاجتماع والنقاشات، فإنّ ناصر لم يكن يرغب بخوض الحرب، ويحاول تجنبها، ويؤمن بأنّ العرب غير مستعدين بعد لها، لكنّه وتحت ضغط المزايدات مع السوريين، وبسبب محاصرته بخطابه الشعبوي، اضطر إلى خطوات مسبقة مع إسرائيل (إغلاق مضائق تيران، الطلب من الأمم المتحدة سحب جنودها من سيناء..)، ما استثمرته إسرائيل جيداً واعتبرته بمثابة إعلان حرب، فقامت بمهاجمة المصريين فجر الخامس من حزيران 1967.
الكارثة لم تقف عند تلك اللحظة، فالملك حسين كان يعلم تماماً الفرق في موازين القوى بين العرب وإسرائيل، وعدم استعداد العرب لتلك الحرب، لكنّه اضطر تحت ضغط التخوين والخطاب الشعبوي الناصري، الذي اجتاح الشارع العربي والأردني، إلى إعلان وقوفه مع الدول العربية الأخرى، بالرغم من التخوين والاتهامات، ووضع الجيش الأردني تحت إمرة القيادة العربية المشتركة، وأحضر معه بالطائرة من مصر المشير عبد المنعم رياض، لقيادة الجبهة الأردنية.
الطامة الكبرى أين؟! أنّ المعركة في مجملها لم تكن 6 أيام، كما هو دارج في كتب التاريخ، بل 3 ساعات فقط، كما يؤكّد محمد حسنين هيكل، إذ أنهى الطيران الإسرائيلي المعركة منذ البداية، بتدميره الطائرات المصرية، لكن مكابرة عبد الحكيم عامر، جعلته يحاول إخفاء هذه الوقائع عن الشعوب وحتى الحلفاء، فأخبر الأردن بأن الضربة فشلت، وطالبه بتنفيذ جزئه من الهجوم والدخول في الحرب، وهو ما كان، وكما يذكر – آفي شلايم في كتابه “أسد الأردن”، نقلاً عن الملك الحسين- بأنّه لو كان يعلم ما حدث خلال النصف ساعة الأولى لما تورط في تلك الحرب الخاسرة سلفاً.
مررت على هذه القصة، مع قصص أخرى عديدة، مثلما حدث في حرب الخليج الأولى 1990، من مآس وكوارث لأقدم مثالاً بسيطاً على مرحلة الخطابات الشعبوية والآمال الوهمية بها. فإذا كان هنالك من فائدة وحيدة لما يحدث اليوم من انهيارات في عالمنا العربي، فهي أنّ هنالك وعياً أفضل بانتهاء “ثقافة المخلّص”!