بين الانتقادات التي يوجهها من يراجعون مسار الثورة السورية وأدوار الفاعلين فيها انتقاد يقول بضرورة رفض “الوصاية السياسية والفكرية” التي يمارسها بعض رموز المعارضة على الأجيال الشابة. وينطلق أصحاب هذا الرأي من واقعةٍ يعتقدون أن صحتها ليست بحاجة إلى دليل، هي أن أصحاب الرأي وصنّاعه في المعارضة السورية قد فشلوا، إلا في أمر وحيد، هو ممارسة قدر من الوصاية على أجيالها الشابة منعها من إظهار ما هي مؤهلة له من إبداع وقدرات، لو تحرّر من الوصاية لغيّر مسار الثورة، أو حال دون ارتهانها لما ظهر فيها من أخطاء وعيوب، انتجتها بالضبط وصاية هؤلاء عليها.
هل هذا ما حدث بالفعل، وأصاب الثورة بالكوارث التي حلت بها؟ هل “الكبار” هم من لاحقوا الأجيال الشابة التي أطلقت الثورة، واعتقلوها وقتلوا وسجنوا كتلتها الرئيسة ورموزها، وفصلوها عن حاملها الأهلي الذي استمروا في سحقه إلى أن تسلح وتطيّف وتمذهب، وابتعد عن قيادة حراك الحرية السلمية الشابة، ومشى وراء قيادةٍ معاديةٍ له ولمطالبه، وأسهم بتمذهبه وتعسكره في تهميشه وملاحقة (وتصفية) رموزه وممثليه الذين نجوا من قمع النظام الأسدي وتصفياته، علما أن موتهم حدث، هذه المرة، بأيدي إرهابيي “داعش” وجبهة النصرة؟ ثم، هل كانت الأجيال الشابة مؤهلةً حقا لقيادة الثورة التي سرعان ما فقد السوريون سيطرتهم عليها، بعد أشهر من انطلاقتها، وتحولوا بقوة صراعات وتناقضات دولية إلى أداة لتصفية حسابات بين قوى خارجية إقليمية ودولية متنوعة، تلاشت أهدافها تدريجياً أمام أهدافهم، حتى صار من الواقعي القول إن الخارجي غلب الداخلي السوري، والأجنبي الوطني، والدولي المحلي، والإقليمي العربي … إلخ. لذلك اتضح بصورةٍ متزايدة أن مجرياتها لم تعد رهن إرادتهم التي غدت رهينة خياراتٍ وقراراتٍ أملاها غيرهم عليهم، من دون أن تكون في مصلحتهم، وأن يستطيعوا الحد من تبعيتهم لها. بعد عام من الثورة، ذهب قطاع كبير من شباب المجتمع الأهلي إلى سلاح تمذهب وتعسكر، وغاب قطاع آخر ربما من شباب المجتمع المدني في السجون أو قتل أو رحل عن الوطن، وفقد تماسّه المباشر مع مواطنيه. في هذا الفراغ، وما لازمه من تمزيق للهيئة المجتمعية، بمختلف فئاتها وطبقاتها وأماكن انتشارها، أصاب الجميع عجز لم يعرفوا كيف يتجاوزونه، حال بينهم وبين تحويل تمرّدهم أو انتفاضتهم إلى ثورة، وأفشل شيئا فشيئا جهودهم لمواصلة حراكهم بوصفه تمرّدا سلمياً، مدني الهوية ديمقراطي المآل، هدفه الحرية لشعب سوري موحد.
بفقدان التمرّد هويته واستقلاليته وارتباطه مع معظم فئات الشعب، بدأ ينحدر، وبان عجزه عن التحوّل إلى ثورة. عندئذ، ظهر ما اتسمت به الأجيال الجديدة أولا، والأحزاب التقليدية ثانيا، وأخيرا النخب المثقفة المستقلة عن الأحزاب، من افتقار إلى ما كان مطلوبا وضروريا من فكر ثوري منهجي وخططي، ومن قدرة على بلورة برامج سياسية مترابطة وامتلاكها، موضوعها مجتمعنا بخصوصياته التاريخية والدينية والحضارية، وفقره الديمقراطي والمدني المديد، تستند إلى ثقافة عصرية مستقلة نسبيا، وقابلة للانغراس في المجتمع، حيث تتنامى وتنتشر في أجواء آمنة نسبيا، وتخترق قطاعات واسعة من النخب الثورية والشرائح الاجتماعية المتوسطة والعليا، ويمنحها تفعيلها القدرة على بلورة حلول ناجعة لما يواجه التمرّد من مصاعب وتحديات يعني تجاوزها والتغلب عليها تحوله إلى ثورة. صنع الشباب التمرد، وحين تطلب استمراره فترة أطول مما اعتقد الجميع، تبين أن التدخل الخارجي والانحراف المذهبي المتعسكر والعجز الذاتي عوامل ستكبح تطور حراك السوريات والسوريين إلى ثورة، وأن الانحراف الخطير الذي أصاب القطاع الأهلي أفقد التمرد جماهيره الواسعة وقوّض الحرية التي كانت حلما فغدت تحولاتها الكابوسية واقعا، لا يمكن الخروج منه، في ظل تدخلات الخارج التي أسهمت بدورها في دفع الحراك بعيدا عن الحرية والديمقراطية، بوصفهما مطلبين وإمكانيتين صارتا شيئا فشيئا افتراضيتين، ازدادتا بعدا عن مطالب الحراك، بقدر ما طال، وجافت مجرياته أحلام السوريات والسوريين.
لم تكن هناك وصاية، لأنه لم يكن هناك أوصياء من جهة، ومن يمكن فرض الوصاية عليهم من جهة أخرى. ولو كان هناك وصاية لأمكن تفادي أخطاء سياسية كثيرة حذّر “الأوصياء المزعومون” منها، لكن أحدا لم يستمع إليهم، بسبب سيطرة الشعبوية على الحراك في مرحلة مبكّرة، ولأن معظم الأوصياء كانوا من أنصار الحرية الذين رفض التمذهب والتعسكر دورهم بشدة، لأنه كان ضدهما. لقد عانى “الأوصياء” حال نبذ وعزلة، كالتي عانى منها شباب الحراك المدني، على الرغم من صلاتهما الواهية قبل الثورة، علما أن قوة الحراك وحجمه قطع صلاتهم القائمة، الضعيفة أصلا، وأخذ الشباب إلى مواقع جعلت من الصعب عليه تطوير علاقاته معهم، بينما كانوا يتعرّضون هم أنفسهم لحملات متعاقبة من العزل والتخوين: كعلمانيين يعادون ثورة أهل السنة والجماعة وعملاء للغرب الكافر والنظام الأسدي، الذي صار علمانيا مثلهم بدوره، بعد أن كان طوال عقود طائفيا/ نصيريا. في هذا الاحتجاز المزدوج الذي طاول الشباب والأوصياء على يد قوتين متكاملتين هما: النظام من جانب والتنظيمات المذهبية التي لا تقبل حلا غير عسكري، ونظاما غير مذهبي من جانب آخر، وترفض مشاركة أي خارج عنها في انتصارها الموهوم، كان من المحتم أن تتلاشى علاقة المثقفين بالحراك الذي كان يتلاشى بدوره، وأن يفشل التمرد في الحفاظ على مدنيّته وحيويته ووجوده، والمثقفون في استعادة موقعهم قبل التمرّد، وفاعليتهم باعتبارهم ممثلاً ضميرياً لمجتمعٍ فقد جميع أدوات الدفاع عن نفسه، ينكّل به نظام أكملت فظائعه ضدهم تنظيمات أخذت تمارس حيالهم سياساتٍ مطابقةً لسياساته التي لم تبزّها في القسوة والعنف والتعطش إلى القتل.
لا تكمن مأساة الثورة في وصاية ما فرضت على الأجيال الشابة، بل في ما تعرّض له هؤلاء من سحق وتشتيت وتمزيق، وواجهوه من تمذهبٍ وتعسكر، أخرجهم مبكراً من صراعٍ كان يبدو أنهم طرفه الثاني، وأن ما ينشدونه سيكون بديله المؤكد، بيد أن تقويض حراكه بدّل هذه المعادلة وحساباتها من أساسها، واستبدلها بمعادلةٍ لم يعودوا هم حدّها الثاني، بل التنظيمات المعادية للحرية ولوحدة الشعب، والتي حولت الصراع ضد الاستبداد إلى صراع سني/ علوي. لا تكمن المأساة أيضا في وجود مثقفين أوصياء على غيرهم، بل في عدم وجود مثقفين كهؤلاء، لو وجدوا لما افتقر التمرّد إلى برامج وخطط واستراتيجية ثورية، ولامتلك القدرة على حماية نفسه وتطوير وتائره وطاقاته، ولما تحول، بسهولةٍ مفاجئة، إلى تمذهب وتعسكر، ولصمد في وجه الدفق الإرهابي الذي أطلقه الأسد من سجن صيدنايا قرب دمشق، ونوري المالكي من سجن أبو غريب قرب بغداد، وسرعان ما تحول إلى سيل جارف غطت تنظيماته المناطق التي أخرج النظام منها، وغيرت أسس الصراع ضد الأسدية، ودمرت علاقات الثورة الدولية وحسّنت مواقع الأسد، إلى أن عاش الشعب تحت قصف النظام من الجو، وإجرام التنظيمات على الأرض، وكفر مواطنو البلدات التي ابتليت بجماعاتها المسلحة بكل شيء، وعادوا تدريجيا إلى النظام.
واليوم، ونحن نشهد إفلاس التعسكر والتمذهب، خصوصا بعد كارثة حلب التي تسبب بها، تصبح الحاجة ملحة إلى وضع خبرات المثقفين المنتمين إلى الشعب ومعارفهم تحت تصرف الحراك المجتمعي والشبابي الذي بدأت علامات تجدّده تلوح في الأفق، وأخذ يستعيد هويته حراكاً من أجل الحرية للشعب السوري الموحد، لكي لا يتخبط في الارتجال والشعبوية، ويغيب مجتمع الحرية عن الحاضر والمستقبل، بعد كل ما قدمه من تضحياتٍ وعاناه من عذابات. في هذه اللحظة المفصلية، من غير الجائز وطنيا انفصال المثقفين عن الحراك، ومن الضروري أن يستعيدوا دورهم، وما يمليه عليهم ولاؤهم للشعب من أنشطةٍ يضعونها في خدمته، وأن لا يسمحوا لغربتهم عنه أن تحرفه عن مقاصده النبيلة، وتضعهم في موقع التقصير والتقاعس عن أداء الواجب.