تهل علينا هذه الأيام ذكرى رحيل محمد حسنين هيكل 17 شباط (فبراير) 2016. ولأننا نفتقده كثيراً في ذكراه الأولى ونشعر بحجم الفراغ الذي خلفه، نجد أنفسنا مدفوعين تلقائياً الى التلفت حولنا بحثاً عن شخصية تستطيع ملء الفراغ الكبير الذي تركه «الأستاذ»، لكن هيهات. فأينما ولينا الأبصار صوب أي بقعة باتساع الأرض العربية كلها لا نرى إلا رمالاً ودماءً وأجواءً تبدو طاردة بطبيعتها لكل ما يمت للعقل والحكمة بصلة.
لم يكن هيكل مجرد صحافي أو سياسي متمكن، وإنما كان مدرسة متكاملة أنتجت نموذجاً يضاهي، من حيث نبوغه وتميزه في مجال الصحافة والسياسة، ما قدمه نموذج طه حسين في مجال الأدب، وما قدمه نموذج العقاد في عالم الفكر. وإذا كان طه حسين قد شق طريقه في عالم الأدب عبر مسيرة علمية شاقة تمكن خلالها طفل ضرير فقير من الحصول على أرفع الشهادات الأكاديمية من أرقى الجامعات العالمية، إلى أن استحق بجدارة لقب «عميد الأدب العربي»، لم يكن العقاد في حاجة إلى ارتياد المعاهد الأكاديمية أو إلى الحصول على شهادات جامعية ليثبت جدارته ورجاحة عقه، واستطاع، عبر تمكنه من التهام وهضم الآلاف من أمهات الكتب، أن يفرض نفسه كمفكر عملاق. أما هيكل فلم يذهب إلى الجامعات ليتعلم، كما فعل طه حسين أو إلى المكتبات ليتثقف، كما فعل عباس العقاد، وإنما اتجه مباشرة إلى مدرسة الحياة التي ولج إليها من باب الصحافة. ولأنه آثر أن يتابع بنفسه أحداث العالم وهي تتفاعل فوق مختلف الساحات والميادين، وأن يتحاور مباشرة مع صناع هذه الحوادث ومحركيها، فقد أدرك أهمية أن يقرأ قبل أن يشاهد، وألا يكتب إلا بعد أن يشاهد أو يستمع بنفسه وأن يستوعب قبل أن يحلل أو يستنتج أو يجتهد، ليتمكن في النهاية من التربع على عرش مدرسة متميزة في عالم الصحافة والسياسة.
لقد حبا الله هيكل بعمر مديد اقترب من قرن كامل. ومنذ ولوجه إلى عالم الصحافة عام 1942، كمتدرب في صحيفة «الإيجيبشيان غازيت» وهو في سن الثامنة عشرة، ونجمه في صعود دائم لم يخفت أو ينطفئ قط حتى رحيله عن عالمنا. فخلال حياته المهنية الحافلة استطاع هيكل أن يتقلد مناصب صحافية رفيعة في سن مبكرة، فشغل منصب رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة» وعمره 23 سنة وأصبح أحد رؤساء تحرير «أخبار اليوم» قبل أن يتولى رئاسة تحرير «الأهرام»، أكبر وأعرق الصحف المصرية، وعمره أقل من 34 سنة. أما في عالم السياسة فقد تقلد مناصب رسمية رفيعة، ولكن في عهد عبدالناصر فقط، حيث شغل منصب وزير الإعلام لمدة عام تقريباً ووزير الخارجية بالنيابة لمدة أسبوعين، لكن الأهم من ذلك أنه كان على صلة وثيقة بكل رموز النخبة الحاكمة في مصر، بدءاً بالملك فاروق وانتهاءً بالرئيس السيسي، وبالنخبة السياسية الأوسع، بدءاً بمصطفى النحاس وانتهاءً بمحمد البرادعي. وأجرى حوارات مطولة ليس فقط مع أهم رؤساء دول وحكومات العالم وإنما أيضاً مع أهم نجوم المجتمع الدولي في مجالات عديدة، كان من بينهم مونتغمري وإندريه مالرو وألبرت أينشتاين.
ولأنه وجد في الصحافة أداته المثلى لإشباع هذا النهم، وقاده أسلوبه البليغ والمعبر للتعرف على أهم الشخصيات المؤثرة في عصره، فقد أصبحت له تجربة حياتية خاصة جعلت منه نموذجاً للصحافي الذي يصعب على أي سياسي أن يتجاهله، ونموذجاً للسياسي الذي يثير إعجاب وغيرة زملائه الصحافيين في الوقت نفسه. وبين الصحافة والسياسة صال هيكل وجال وصنع لنفسه ومن نفسه مكانة وقيمة، وأنتج تراثاً جديراً بأن يثير لعاب الباحثين والدارسين للإعلام وللعلوم السياسية على السواء. كان الرئيس السادات، يرحمه الله، أول من أطلق على هيكل، حين اختلف معه، لقب «الصحافي الأوحد»، وهو مصطلح قصد به الإيحاء بأن هيكل استمد قيمته من علاقته بعبد الناصر الذي مكنه وحده من الاطلاع على أسرار الدولة. لكن هيكل أثبت لاحقاً ليس فقط خطأ هذه المقولة وإنما افتئاتها على الحقيقة أيضاً، فرحيل عبد الناصر وابتعاده عن السادات أتاحا لنا فرصة اكتشاف هيكل الباحث والمؤرخ. فقد بحث الرجل واجتهد وحصل على ما يحتاج من معلومات من مصادرها، وكتب تحليلات ودراسات طرح من خلالها رؤية وعبر فيها عن مواقف يمكن أن نتفق أو نختلف حولها، لكنها كانت باعتراف الجميع دراسات جادة وعميقة ومتميزة. وقد وجهت انتقادات أو اتهامات كثيرة إلى هيكل تصفه بالرجل الذي لا يطيق البعد عن السلطة، وراح البعض يستدل على هذه المقولة باقترابه من السيسي وحرصه على الترويج له وعلى تثبيت دعائم حكمه.
غير أن هذا الاتهام يبدو متجنياً أيضاً لأن هيكل كان دائماً صاحب موقف ورؤية، بصرف النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف البعض مع هذه المواقف أو تلك الرؤية. فهيكل لم يخف أبداً إعجابه بعبد الناصر، كقائد وكرجل دولة، ولم يخف أبداً إيمانه بأفكاره ومبادئه، كزعيم وكثائر، وظل يدافع عنه وعن كل ما يرمز إليه حتى آخر نفس في عمره، لكن على طريقته هو. وهو لم يكن في أي يوم من الأيام مجرد بوق لعبد الناصر أو أداة من أدواته، ووضع نفسه دائماً في موقع المحاور الند والقادر على التأثير في فكر الزعيم بقدر تأثره به. وحين اختلف هيكل مع السادات لم يكن الخلاف حول منصب أو مطمح شخصي وإنما كان خلافاً حول قضية وحول سياسة وحول موقف وحول مستقبل وطن وأمة. ولم يقتصر موقفه هذا على السادات وإنما امتد إلى مبارك الذي وصفه بسلطة «شاخت في موقعها» وكان أول من هاجم مشروع التوريث وتحمل الكثير من العنت بسببه، ولم يتردد في المطالبة بمنح مرسي فرصته كاملة، لكن ذلك لم يمنعه من إعلان اختلافه معه حين أحس أنه اختطف مصر وانطلق بها نحو المجهول، ولم يخف تأييده للسيسي ومن المؤكد أنه لعب دوراً رئيساً في الترويج له في البداية، لكن لديه الشجاعة ليجاهر في أحاديثه الأخيرة بانتقاد بعض سياساته.
لم يكن هيكل إذن شيئاً عابراً أو هزيلاً في حياة مصر والعرب، وإنما كان شخصية مهمة ومؤثرة تركت بصمة واضحة في مجالي السياسة والصحافة ولا تزال حتى بعد رحيلها قادرة على الإلهام. لذا أعتقد أنها تستحق اهتماماً من نوع خاص، ليس بمنطق الحفاوة والتكريم أو التبجيل والتأبين، وإنما بمنطق الفحص والبحث والدرس والتمحيص لتراثه، استناداً إلى رؤية نقدية موضوعية رصينة وليس إلى رؤية أيديولوجية. ولا جدال في أن هيكل ترك تراثاً له قيمة كبيرة تتطلب الاهتمام به، بجمعه وتصنيفه ودراسته وتحليله ونقده. لا أقول هذا من موقع الانبهار بهيكل أو الحرص على ترويج أفكاره ومواقفه، فقد اختلفت مع العديد منها وتناقشت معه في بعضها، ولكن من موقع العارف بقيمة ما أنتج وأهمية ما قام به من دور في حياتنا السياسية والاجتماعية. أختتم بإشارة موجزة إلى جانب غير معلوم وربما غامض في حياة هيكل. فأي دراسة عن هيكل، تراثاً ودوراً، لا يمكن أن تكتمل إلا بإلقاء الضوء على حياة هيكل الشخصية: نشأته وطفولته وشبابه، وعلاقته بأسرته الكبيرة: الوالدان والإخوة والأخوات والأقارب، وبأسرته الصغيرة: أي هيكل الأب وعلاقته بالزوجة وبالأبناء والأحفاد، وهيكل الصحافي وعلاقته بزملاء المهنة، وهيكل السياسي وعلاقته بالنخبة الأوسع، ورأيه الشخصي في رموز هذه النخبة. لذا أود من خلال هذا المنبر أن أوجه نداءً لأسرة هيكل أن تهتم بهذا الجانب من حياته والذي لم يعد ملكاً شخصياً لها. رحم الله هيكل وغفر له.