الطابور.. وسيلة كلاسيكية قديمة لتنظيم تجمع أعداد كبيرة من البشر في مكان واحد ووقت واحد للحصول على خدمة «ما»، الهدف منه تيسير الحصول على تلك الخدمة بسلاسة تساعد في اختصار مدة الانتظار. لذا. فالغاية الفلسفية من الطابور واحدة في كل زمان ومكان، ولكن تعامل البشر معه يختلف باختلاف المجتمعات، فهل من الممكن أن يكشف لنا الطابور بـ«فوضاه» أو انضباطه ثقافة المجتمع لنستشف من خلاله السمات العامة لأفراده؟
لو قارنا بين تعاملات البشر مع ثقافة الطابور في مجتمعات مختلفة، لوجدنا أن ذلك الخط البشري الممتد يحمل إشارات تكشف للبيب الكثير عن اعوجاج المجتمع أو استقامته، فغالباً ما تتميز المجتمعات ذات الطوابير المنضبطة بشعوب صبورة على الروتين، صارمة في تنفيذ مفهوم سواسية البشر وتساوي حقوقهم في الحصول على الخدمة المناسبة بحسب الأحقية والدور والنظام بغض النظر عن الوجاهة الاجتماعية أو المكانة المادية، ما يقلل كثيراً من نسبة الفساد في كل شيء، أعني أن انتظام الفوج في سلسلة انتظار على أصعدة مختلفة من دون تذمر أو ملل يعني أن هذا الشعب أو المجتمع منضبط أخلاقياً واجتماعياً وإدارياً، وحتى في النقاشات والمطالبة بالحقوق نجده يعرف كيف يعبر عن رأيه بهدوء ويطالب بحقوقه ويحصل عليها بأسلم الطرق وأرقاها، ما يدل على أنه مجتمع مثقف يدرك أن أقصر الطرق للوصول إلى الهدف أن تمسك بجادة الانتظار وإن طالت! وأن أي إخلال بهذا النظام يجعل الفرد يصل بسرعة ثم يكتشف أنه أمسك بسراب الوصول للهدف قصير المدى، مفسداً على نفسه متعة الوصول للهدف الأبعد، وهي مصلحته العامة التي لن تتحقق بفردية أنانية بعيدة عن مشاركة جماعية تخدم الكل الذي يتكون من مجموعة أفراد ثم جماعات يتكون منها مجتمع يحتل مساحة على الخريطة العالمية للكرة الأرضية، بيده هو أن يجعل لها ظهوراً بارزاً لتكون في تعداد دول العالم المتحضر أو تتراجع بسلوك شعوبها إلى التصنيفات الأقل تميزاً!
في المقابل، نجد أن المجتمعات التي تستهتر بانضباطية الانتظار، والشعوب التي ترى أن فيه مضيعة للوقت شعوب فوضوية، الحقوق العامة فيها ضائعة أو مسلوبة، والحقوق الخاصة تؤخذ بالجاه أو المال أو بقوة الصوت أو الذراع، الجهل الاجتماعي فيها منتشر، ومصلحة الفرد فيه تطغى على مصلحة الجماعة العامة، وبالتالي يسقط المجتمع، وفي أحسن الحالات يقف بعجز أمام المجتمعات التي تتطور وهو يدور حول دائرة البقاء للأقوى والأسرع من دون النظر إلى كيف أخذ أو وصل، ما يجعل المجتمع بأكمله يتحول إلى ساحة كبيرة للسباق أو حلبة من حلبات المصارعة الرومانية القديمة التي يتقاتل فيها المتبارزون والفوز لمن ينتصر بقوة ذراعه لا بعقله وأخلاقه، فينتشر الظلم وتهضم الحقوق وتتحدث الأنانية الفردية التي توسوس للإنسان أن مصلحته فوق مصلحة الجميع وأنه «أنا ومن بعدي الطوفان» قاعدة حياتية سليمة.
ثقافة المجتمع تتدنى وطموحه الشخصي يضعف نظره عن رؤية المصلحة العامة التي سيعم خيرها عليه وعلى أولاده وأحفاده، وهنا الذنب الأكبر حينما يصل الإنسان لدرجة من الوحشية الثقافية والأمية المجتمعية، بحيث يقتل مجتمعاً كاملاً قتلاً بطيئاً بسلاح الأنانية الفردية والمصلحة الشخصية! وهذا هو الظلم الأكبر الذي يأثم من فعله ومن ساعد بانتشاره، لأن فيه ذنباً عظيماً ومخالفة صريحة لما أمر الله به من تعمير الأرض لا هدمها بأنانية البشر. لذا، ليتنا ندرك أن الطوابير جسور ذات حواجز منيعة معلقة على سفوح الأخلاق، تمنع البشر من السقوط إلى أسفل هاوية التخلف والضياع والسلبية والانقياد، وأنها أقوى رابط يربط الغاية بطريقة الوصول إليها من دون عثرات أو سقطات تضر بالنفس أو الآخرين، فليتنا نلتزم بها حتى يبلغ كل منا إلى هدفه من أقصر الطرق، وحتى نكون كلنا كجماعات كبنيان متين لو سقطت منا لبنة أسرعنا بترميم الخلل وواصلنا المسير بقوة وثبات وثقة.. حاملين على أكتافنا مسؤولية مجتمع لن يعطينا ما نصبو إليه ما لم نحرص على ربط سلاسل من الطوابير الأخلاقية والثقافية والضمائرية برباط متين من الانضباط والمسؤولية.