لم تعد الثقافة كما وصفها ماكس فيبر عاملاً مساعداً يدفع المجتمع نحو غاياته، أو كما يراها كارل ماركس ناتجاً فرعياً لطور الإنتاج السائد، أو كما يراها إميل دوركايم إحدى المؤسسات الاجتماعية، ففي التشكلات الاجتماعية الناشئة اليوم بفعل تكنولوجيا المعلومات تحتاج سلسلة الاستجابة نفسها إلى ثورة، إذ في عالم الصناعة أنشأت الموارد والتقنيات أسواقاً وأنظمة اقتصادية جديدة، وهذه أنشأت منظومة سياسية ثم تشكلت مدن ومجتمعات، وأخيراً نشأت الثقافة.
لكننا اليوم في حاجة إلى البدء بالثقافة لتقود تشكيل السياسة والأسواق والمدن، لأنه بغير ذلك تدخل الأسواق والأعمال والمجتمعات في حالة من الفوضى والخوف والتطرف، ويصعب استيعاب الصدمة الناشئة بغير وعي جديد وبناء تشكلات اجتماعية وثقافية جديدة تمكن الدول والمجتمعات من إعادة تنظيم نفسها.
صحيح أننا لا نعرف ما المجتمع الإنساني الذي سيتشكل حول تكنولوجيا المعلومات، ومن ثم فإنه يصعب تقدير القيم والثقافة الجديدة، لكننا نملك أن نطلق حالة من الحريات والجدل المفتوح، وأن تحصل المدن والمجتمعات والطبقات على فرصة كافية لتشارك في تنظيم وإدارة أولوياتها وتصوراتها وتختار قياداتها التي تعكس اتجاهاتها ومصالحها بكفاءة وعدالة، وألا نطيل عمر المؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والمهنية التي تتآكل بسبب التكنولوجيا الحديثة، فذلك ليس سوى لعب في الوقت الضائع، ويؤخر استيعاب المجتمعات والدول للحقائق الجديدة ويكرر مآسي سابقة، عندما حاولت نخب سياسية أن تمنع المطبعة أو سكة الحديد أو آلات النسيج.
ربما تكون أنظمة سياسية ومصالح اقتصادية محقة في مخاوفها وشعورها بالتهديد وربما الفناء، لكن التاريخ يؤكد أن البحث عن الفرص ومجالات التكيف هو الوسيلة الوحيدة للقدرة على الاستمرار وربما النمو، في حين أن مقاومة التغيير هزيمة مؤكدة.
يقول الفيلسوف الفرنسي وأستاذ الاجتماع بيار ليفي والذي شغل بالتأثير الثقافي والاجتماعي للإنترنت: ثمة ظاهرة اجتماعية جديدة تتشكل لم يسبق للدين أو القانون أو الاقتصاد التقليدي أن تناولها، إنها الذكاء الجمعي الكلي الذي يتضاعف مع زيادة التفاعل وزيادة معدل إنتاج المعرفة وتداولها واستهلاكها وزيادة التفاعل بين عناصر المنظومة المجتمعية.
يمكن التقدير في استيعاب صدمة الشبكية أن الثقافة تمثل في الحياة والعمل والاقتصاد والإنتاج مساحة أكبر بكثير مما يبدو في التفكير الانطباعي السائد، ويمكن ملاحظة هذه المقولة بوضوح في اقتصاد المعرفة القائم على الفكرة والتصميم والإبداع، والذي يشكل معظم الاقتصاد السائد اليوم. ولم يعد مستهجناً الربط بين التقدم الاقتصادي والثقافي، فقد كرس التقرير العالمي للتنمية البشرية هذه المقولة على نحو بدأ يغير في خطط واستراتيجيات التنمية في العالم، لكن الأمر يحتاج ربما إلى توضيح وتأكيد متواصل ومتكرر للقدرة على الربط بين الثقافة والتقدم، أو بين الثقافة والفشل أو لتشكيل تجمعات ومشروعات للتقدم قائمة على أساس الثقافة.
ولا بأس بتكرار القول إن الثقافة هي منظومة الأفكار التي تعبر بها المجتمعات عن وعيها لذاتها من اللغة والإبداع والآداب والفنون والتراث والعمارة، والقيم والعادات والتقاليد، وفي ذلك يكون السؤال كيف تؤدي إلى تقدم الحركة الثقافية والفكرية من الإنتاج الأدبي والإبداعي والترجمة من الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي واللغات والفنون البصرية والسماعية، وحركة النشر بعامة من الكتب والمجلات والدوريات ومعارض الكتب والمطابع والمكتبات ومواقع الإنترنت والمدونات، وأنماط الحياة في السلوك الاجتماعي والانتماء والمشاركة والعادات والتقاليد والتعليم والعمارة واللباس والطعام؟
إن المجتمعات في تنظيمها لمصالحها ووعيها لذاتها تحتاج إلى معرفة ثقافتها وفحصها، وتطوير هذه الثقافة لتكون استجابةً صحيحة لتشكلها حول أهدافها وما تريد أن تكون عليه من تقدم حضاري واجتماعي واقتصادي، وأن تشكل ثقافتها على النحو الذي يمكنها من التوافق الصائب مع البيئة المحيطة والموارد والتقنية وسبل الحياة والرفاه، وعلى النحو الذي ينشئ الناس به كفايتهم ويحققون الأمن والاستقرار والرضا والسعادة والانسجام مع متطلبات حياتهم وتطلعاتهم وآمالهم بحياة أفضل.
الفكرة الرئيسة لهذا المقال أن الثقافة والفنون تلهم بالجمال الأفرادَ والمجتمعات، للاتجاه نحو السلام والازدهار وتجنب الكراهية والخواء والتطرف؛ ففي غياب «الجمال» يكون الخواء ليس مجرد أزمة نفسية، ولكن ذلك يفسر أيضاً الكراهية والانحياز ضد التقدم بما هو أيضاً انحياز ضد الذات.