بعد تأجيله لأكثر من مرة، انعقد مؤتمر باريس للسلام بحضور دولي لا سابق له، وأصدر بياناً ختامياً أحسب أنه يرقى إلى مستوى بيان مثير للاهتمام صادر عن اجتماع وزاري عربي طارئ، رغم كل التعديلات التي تمت على مسودة مشروع هذا البيان، الذي جاء متمماً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334.
استمد هذا المؤتمر أهميته من عدة زوايا، لعل في مقدمتها توقيته اللافت عشية التحول في إدارة دفة السفينة الأميركية، وتراجع الاهتمامات الدولية بالقضية الفلسطينية، وتفاقم الأوضاع الذاتية الصعبة، واشتداد التطورات العاصفة في المنطقة، بما في ذلك الحرب الدولية على الإرهاب، إلى جانب سلسلة طويلة من المشكلات الإقليمية التي غيرت الأجندات والأولويات كافة.
وعليه، فقد كان انعقاد هذا المؤتمر، الذي استضافته أهم العواصم الأوروبية، مهماً في حد ذاته، وبغض النظر عن فاعلية مخرجاته، ولا سيما أنه انعقد رغم المعارضة الإسرائيلية الشرسة، والضغوط الأميركية المتواصلة لمنع التئامه في مواعيد سابقة، ناهيك عما انطوى عليه هذا الحضور الدولي الباذخ من دلائل قاطعة على مدى عزلة إسرائيل في العالم الذي ملّ من العجرفة السياسية لدولة فوق القانون الدولي، صغيرة مارقة ومدللة.
وإذا كان صحيحاً أن مخرجات مؤتمر باريس لن تسفر عن نتائج عملية ملموسة على الأرض، على الأقل في المدى القريب، إلا أن من الصحيح أيضاً أن أهم العواصم في القارات الخمس، اجتمعت على إبلاغ آخر دولة احتلال بأنه كفى لنحو خمسين سنة من التوسع والاستيطان ومصادرة حقوق شعب يتطلع إلى نيل الحرية والاستقلال، بما في ذلك حقه في إقامة دولة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية المحتلة.
ولا أحد يمكن له التقليل من أهمية الرسالة التي بعثت بها الأسرة الدولية، ولا من قوة الصوت الذي انطلق من باريس، بمن في ذلك بنيامين نتنياهو الذي لم ير في مؤتمر باريس إلا عبثاً وخدعة فلسطينية، تسوقها فرنسا ببراعة دبلوماسية، مع أن الرئاسة الفرنسية تراجعت عن وعدها بالاعتراف التلقائي بالدولة الفلسطينية، في حال رفضت إسرائيل الاستجابة لمخرجات المؤتمر؛ إذ أبقى “الإليزيه” هذه المسألة رهناً بالتطورات اللاحقة.
هكذا، فإن مؤتمر باريس يعد مكسباً فلسطينياً عربياً خالصاً، تحقق في أصعب اللحظات التي تمر فيها القضية المثخنة الجراح. وأتى في أحلك الأوقات التي تحيق بهذه المنطقة المنهكة في حروبها الداخلية، خاصة أنه جاء في ربع الساعة الأخير قبل أن يدخل البيت الأبيض ساكن جديد يهدد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، الأمر الذي قد يشكّل مانعاً دبلوماسياً بالغ الأهمية أمام دونالد ترامب، أو قل هذه الجرافة التي تعمل بلا كوابح على طريق زلقة.
أعلم سلفاً أن أصحاب الرؤوس الحامية لن يعجبهم مؤتمر باريس، حتى لو أتى لهم بمفتاح يافا كهدية مجانية. غير أن السؤال هو: ما العمل، إذا كان المفاوضون لا يفاوضون فيما الزمن يعمل لغير صالحهم، والمستوطنات تسابق نفسها بنفسها على الأرض؟ وأين المفر إذا كان المقاومون لا يقاومون، بل ينشغلون في مطاردة وقمع المحتجين على انقطاع الكهرباء في غزة، ولا حياة لمن تنادي بخصوص إنهاء الانقسام ووقف الانهيار؟
إزاء ذلك، يبدو مؤتمر باريس، بما تضمنه من خطوط عامة لتجسيد حل الدولتين، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، وعدم الاعتراف بالخطوات الأحادية، والتمييز بين إسرائيل والمستوطنات، وضرورة الامتثال للقانون الدولي، وغير ذلك من المحددات المهمة، نقول إزاء ذلك كله، فإن نتائج هذا المؤتمر قد تشكّل نقطة فارقة، إذا تم أخذها إلى مجلس الأمن الدولي، وصدر بها قرار جديد، يضع إسرائيل أمام حقائق سياسية لا تستطيع القفز عليها.
وأحسب أن بارقتين مهمتين توهجتا في سماء مؤتمر باريس، بفعل نجاعة الهجوم الدبلوماسي المتواصل، المعطوف على واقعية سياسية راشدة؛ أولاهما، أن المشروع التحرري الاستقلالي الفلسطيني يواصل تقدمه باطراد وثقة متعاظمة، مقابل عزلة متمادية تواجه المشروع الاستعماري الإسرائيلي وتشد الخناق حوله. وثانيتهما، أن هناك تحولاً في المزاج العام الدولي، يزداد تقبلاً واحتضاناً للفلسطينيين من جهة أولى، ويضيق ذرعاً بإسرائيل، ويتسع نفوراً ممن سوّقوا أنفسهم كضحية أبدية، من جهة ثانية.