في ستينيات القرن الماضي، رفع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر شعار “لا صوت يعلو على صوت المعركة”؛ في ترجمة لأغلب سياسات دول المنطقة التي تتمثل أن التركيز على هدف معين واحد يحتم إغفال كل الأهداف الأخرى. وفي حالة مصر طبعا، كانت المعركة تتمثل في دحر العدو الإسرائيلي وتحرير فلسطين، حتى استيقظنا ذات صباح لنكتشف أن فلسطين لم تحرر، بل احتلت أجزاء أخرى من الوطن العربي. كما أن باقي الأولويات؛ كتحقيق التنمية المستدامة وبناء المؤسسات، لم يتحقق منها الكثير.
لم تختلف سياسات أغلب الدول العربية عن هذه السياسة التي تركز على هدف واحد دون غيره، منذ ذلك الحين. وحين نخفق في تحقيق حتى هذا الهدف الواحد، نتغاضى عن الإخفاقات وكأنها لم تحصل، ونمضي قدما في سياساتنا رغم قصورها عن الوصول إلى الهدف المنشود.
في العقد الماضي، رفع العديد من الدول العربية، ومنها الأردن، شعار الإصلاح الاقتصادي دون غيره من الإصلاحات؛ “لا صوت يعلو على صوت الإصلاح الاقتصادي”، فأخفق هذا الإصلاح في تحقيق التنمية المنشودة، لانه اجتزئ من مجموعة إصلاحات متكاملة كان يجب أن تطال النواحي التشريعية والقضائية والسياسية، وتؤدي إلى بناء مؤسسات راسخة تحضن وتحمي وتبني الإصلاح الاقتصادي. ولما فشلنا في تحقيق هذا الهدف، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية التي رُكزت كل الجهود نحوها.، بقينا نمارس السياسات الاقتصادية نفسها وكأن شيئا لم يتغير.
وقبل وبعد الثورات العربية، رفعنا ونرفع شعار “لا صوت يعلو على صوت الأمن” بحجة أن الاستقرار ضرورة للازدهار؛ متجاهلين، مرة أخرى، الحاجة إلى التوقف عن اعتماد السياسات أحادية الهدف وحدها، وبناء منظومة متكاملة تطال السياسات والمؤسسات كافة، وتمهد لاستقرار حقيقي نابع من تلبية حاجات المواطن وتجسير فجوة الثقة مع الدولة.
بعد أحداث الكرك، هل يمكن أن ندّعي أن التركيز على الأمن وحده دون غيره حقق النتائج المطلوبة، بحجة أن هذا ليس وقته الآن؟
حان الوقت للاعتراف بأن كل ما اتُبع من سياسات إصلاح مجتزأة لم ينجح لا في معالجة التحديات التي تم التركيز عليها دون غيرها، ولا –بالطبع- في معالجة التحديات الأخرى. كما حان الوقت لإدراك أن بناء المؤسسات الراسخة، التي وحدها تحمي الاستقرار وتحقق الازدهار، هي عملية متكاملة تتطلب عدم اغفال أي من التحديات التي ترتبط كلها بعضها ببعض، ولا تحتمل أن يتم انتزاع أي منها انتزاعا قسريا مصطنعا والادعاء بأنه يمكن معالجة أي منها بمعزل عن معالجة التحديات الأخرى.
يبقى السؤال: إذا كانت النتائج المتواضعة دليلا واضحا على قصور السياسات الحالية، فلماذا تصر الدولة على دفن رأسها في الرمال، واتباع الوسائل القديمة نفسها؟ الجواب أصبح واضحا للجميع: المصالح والامتيازات الشخصية. فقد وقفت هذه المصالح في بلادي لعقود سدا منيعا أمام كل من نادى بتنمية حقيقية تشمل المواطنين والمواطنات كافة. والنتيجة ما عاد بالإمكان تغطيتها بغربال.
إن لم يكن وقت هذا الكلام الآن، فلا أعرف متى يكون. عقود من الزمن قضيناها ونحن نتبع سياسة “طبطبة” مفادها أن الكلام عن الإصلاح “مش وقته”. وبعد كل هذه الإخفاقات، فإن لسان حال الكثيرين هو: “وقته ونص”.