يأتي الشريط المصوّر الذي بثّه تنظيم “داعش” لحرق جنديين تركيين، مع مشاهد للحرب الدائرة بين التنظيم وبين تركيا في مدينة الباب، بمثابة تكريس نهائي، وقطع خطّ الرجعة، للعلاقة بين الطرفين.
لكن التحولات التركية لا تقف عند “داعش”. فالتحضيرات الراهنة التي تشارك فيها تركيا مع روسيا لعقد مؤتمر الأستانة لأطراف سورية، تعكس ليس “استدارة” تركية محدودة (بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان)، بل انقلاباً كاملاً في الموقف التركي وانحيازاً للشراكة والتحالف مع روسيا، على حساب مواقف أنقرة السابقة، ما يفسّر الضغط الكبير من قبل الحكومة التركية على قوى المعارضة السورية لأخذ مسافة عن “جبهة فتح الشام” (“النصرة” سابقاً)، التي توافق الأتراك مع التصنيف الروسي لها بأنّها “جماعة إرهابية”، وبما يعني تخليّاً تركياً كاملاً عن هذه الحركة التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة (غير معلنة) مع الأتراك.
هناك، إذن، مخاض كبير حالياً في أوساط المعارضة السورية المسلّحة، وإعادة اصطفاف؛ من يقف إلى جانب الأتراك، ومن يقف إلى جانب “فتح الشام” (التي تسيطر على إدلب). وثمة تياران يتشكلان حالياً على هذا الأساس. لكن الحالة الأكثر تعقيداً تبدو مع حركة “أحرار الشام” التي تتحالف مع “فتح الشام” في “جيش الفتح”، ويحكمان معاً إدلب. لكن الخلافات بين الحركتين بدأت تأخذ مساراً متصاعداً منذ عملية “درع الفرات”، التي أيدتها “أحرار الشام” ورفضتها “فتح الشام”، وتحولت الخلافات إلى “حروب فتاوى” بين الطرفين.
مشكلة “أحرار الشام” لا تقف عند معضلة علاقتها بـ”فتح الشام”، بل تمتد إلى داخل الحركة نفسها، التي تشهد عملية استقطاب وانشقاقات كبيرة في الآونة الأخيرة (تشمل قيادات سابقة في الحركة)، وخلافات بين تيارين: الأول، براغماتي يقوده مسؤول العلاقات الخارجية في الحركة لبيب النحاس، والذي يدفع إلى التماهي مع الموقف التركي. والثاني، هو الذي جمّد عضويته في مراكز الحركة القيادية، وأعلن تشكيل “جيش الأحرار”، ويقوده أبو جابر الشيخ.
قبل ذلك، كانت حركة “صقور الشام”، أبو عيسى الشيخ، تعلن عودتها عن قرار الاندماج مع “أحرار الشام”، وتقترب أكثر من “المحور التركي” في المعارضة المسلحة، مع فصائل أخرى، ضمن الهندسة التركية الجديدة.
الجانب الآخر من الانقلاب التركي، إقليمي. فاجتماعات الأستانة المقبلة تأتي بترتيب روسي- تركي بدرجة رئيسة، مع إشراك إيران (بطبيعة الحال)، لكنّها بعيدة تماماً عن الخط التركي-السعودي الذي يشهد حالة من الضباب الكثيف حالياً.
وعلى الرغم من أنّ الطرفين التركي والسعودي يحاولان إخفاء الخلافات الراهنة، وعدم تظهيرها للإعلام، إلا أنّ من يراقب التحولات التركية يدرك تماماً أنّ أردوغان قرّر المضي وحده، بعيداً عن ربط تحركاته بالسعودية، المشغولة حالياً بصورة أكبر بالملف اليمني، مع إدراك الرئيس التركي أنّ الإدارة الأميركية الجديدة، بقيادة دونالد ترامب، ستسعى إلى التنسيق مع الروس في ملف سورية، ما يجعل تركيا في الصفّ الدولي والإقليمي الرابح، بعدما كانت مع الطرف الخاسر!
قفز “العمّ أردوغان” بذكاءٍ شديد من مربع إلى آخر، وأعاد ترسيم تحالفاته وعلاقاته بهدوء شديد، وقلب حالة الحصار والعزلة التي كان يعيش فيها في الداخل والمنطقة، ومع العالم الغربي، إلى النقيض تماماً؛ إذ عادت تركيا لترسم مع روسيا، بانتظار وصول ترامب، مستقبل سورية، وأصبح أردوغان حليفاً قوياً للرئيس الروسي بوتين، فلم تؤثر عملية كبرى مثل مقتل السفير الروسي بأنقرة في هذه العلاقة.
محاولة الانقلاب العسكرية فشلت في إطاحة أردوغان. لكن الانقلاب الناجح قاده بنفسه على خصومه في الداخل، وعلى مواقفه السابقة في الخارج!