ماذا بعد انهيار النظام الإقليمي العربي؟/ حسن نافعة

بقدر ما كان العام 2016 كاشفاً عن موت النظام الإقليمي العربي، إكلينيكياً على الأقل، ليس من المستبعد أن يصبح العام 2017 شاهداً على إعلان وفاته رسمياً. ذلك لا يعني أن محاولات إنقاذه ستتوقف بالضرورة، غير أن نجاح أي منها بات مرهوناً بالقدرة على ابتداع صيغة فكرية ومؤسسية قادرة على إيجاد نظام بديل أكثر فاعلية. ولأن الإطار المؤسسي للنظام العربي الراهن، ممثلاً في جامعة الدول العربية، أصبح اليوم جسداً بلا روح، فمن الطبيعي أن تنتفي مبررات وجوده ويصبح التمسك ببقائه كواجهة أمراً غير منطقي، ومن ثم قد يكون من المستحسن البدء من دون تأخير في إجراءات تشييع جثمانه، عملاً بأن «إكرام الميت دفنه». وحين تصل مسيرة الشعوب العربية إلى منعطف كهذا، فلن يكون أمامها سوى الاختيار بين أحد بديلين: الاستسلام لمطالب الطامعين في إرث الفقيد، وهو أمر يصعب القبول به، أو البحث عن صيغة تصلح لإقامة نظام عربي بديل، وهذا هو البديل الوحيد القادر على إحياء الأمل في مستقبل أفضل، ومن ثم يتعين على النخب الفكرية والسياسية العربية أن تنشغل به على الفور.

للكشف عن المعالم الرئيسة للصيغة المطلوبة، ربما يكون من المفيد أن نقوم بزيارة جديدة لمفهوم «العروبة»، الذي ينطوي على أبعاد ثلاثة يتعين التمييز وعدم الخلط بينها: فلمفهوم العروبة بعدٌ فكري يبحث في طبيعة الروابط المشتركة بين الشعوب العربية لإثبات فرضية الانتماء إلى «أمة واحدة» يحق لها إقامة دولتها الموحدة. وكان نسق الفكر «العروبي» قد بدأ يتبلور تباعاً عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، متأثراً بالفكر القومي الأوروبي، وراح ينتشر في أوساط الدارسين العرب في أوروبا مشكلاً تياراً أيديولوجياً واضحاً ضمن تيارات أخرى كثيرة.

وللعروبة بعد سياسي حركي يشير إلى القوى السياسية والاجتماعية التي تبنَّت الفكر العروبي وانشغلت بالعمل على تحقيق حلم الوحدة العربية. وقد مرت «الحركة القومية العربية» بأطوار من المد والجذر تحت تأثير تطور الأوضاع السياسية والاجتماعية المتقلبة في المنطقة، من ناحية، ونوعية الزعامات التي تصدت لقيادتها، من ناحية أخرى. فقد أتاحت الحرب العالمية الأولى ظروفاً مواتية لإطلاق «ثورة عربية كبرى»، قادتها الأسرة الهاشمية بتشجيع من بريطانيا واستهدفت إقامة دولة عربية في المشرق العربي. وحين نقضت بريطانيا وعودها واكتفى الهاشميون ببعض المغانم الأسرية، أخذت الحركة القومية العربية منحى جماهيرياً جسَّدته أحزاب سياسية تقودها رموز الطبقة المتوسطة (حزب البعث وحركة القوميين العرب)، وبلغت ذروة مدها حين آلت قيادتها إلى مصر الناصرية، ثم بدأت تتراجع تدريجياً عقب هزيمة 1967، بخاصة بعد أن عجزت قيادات من نوعية معمر القذافي وصدام حسين عن ملء الفراغ الذي تركه رحيل عبدالناصر في 28 أيلول (سبتمبر) عام 1970.

ولمفهوم العروبة بعد مؤسسي جسَّدته جامعة الدول العربية التي شكَّل قيامها في العام 1945 ولادة لنظام إقليمي عربي رسمي، لكنها انطوت على مفارقة من نوع غريب، فبينما رأى البعض في تأسيسها دعماً لفكرة العروبة وخطوة على طريق تحقيق أمل الوحدة، رأى فيها البعض الآخر نقيضاً للعروبة وتكريساً لواقع التجزئة. وهكذا راحت الجامعة العربية تعمل لأكثر من سبعين عاماً تحت ضغط تيارين متعارضين: الأول يزايد عليها ويحاول دفعها للقيام بدور أكبر مما هي مؤهلة له، والآخر يسعى لتقزيمها وحصارها داخل نطاق الحد الأدنى، ما أصابها بجمود وصل إلى حد الشلل أحياناً.

من الواضح أن هذه الأبعاد الثلاثة تترابط عضوياً. فالضعف الذي تعاني منه جامعة الدول العربية حالياً نَجَمَ عن ضعف الحركات القومية، وضعف هذه الحركات القومية نجم بدوره عن جمود أصاب الفكرة القومية ذاتها وأفقدها بريقها. وحين تعجز الفكرة القومية عن إلهام الشعوب والتعبير عن وعي جمعي بهويتهم المشتركة، من البديهي أن تتقدم مرجعيات أخرى دينية وعرقية ومذهبية وطائفية لملء الفراغ، ويصبح النظام العربي حينئذ محشوراً بين مطالب متناقضة، تدفعه تارة لتجاوز الفكرة القومية ذاتها والقفز إلى حلم «الخلافة الإسلامية»، وترتد به تارة أخرى إلى ما هو أدنى لتحاول حشره في خندق مذهبي أو طائفي أو قبلي. وحين يصل النظام العربي إلى منعطف كهذا لا يصبح حلم الوحدة العربية هو وحده المهدد بالضياع وإنما الدولة العربية نفسها التي دأب البعض على نعتها بـ «القطرية»، سخريةً واستهزاءً. ويشار هنا إلى أن أياً من الدول التي أسَّست جامعة الدول العربية عام 1945 لم تكن مستقلة استقلالاً كاملاً، ولولا موافقة وتشجيع بريطانيا لما قامت هذه المنظمة الإقليمية الجامعة. ومع ذلك فقد شكَّل قيامها نقطة تحول سمحت للعالم العربي بتنظيم صفوفه لمواجهة نوعين من التحديات فرضا نفسيهما في ذلك الوقت: الأول جسَّده المشروع الصهيوني الذي استهدف إقامة دولة يهودية في فلسطين، والثاني جسَّده الاستعمار الأوروبي الذي كان لا يزال جاثماً على صدر معظم الدول االعربية. وبينما أخفقت الجامعة العربية في منع قيام دولة يهودية في قلب الوطن العربي وفي التصدي لأطماعها التوسعية بعد ذلك، إلا أن الجامعة نجحت في مساعدة الدول العربية على التخلص من المحتل الأوروبي والحصول على استقلالها السياسي. ورغم أزمات وانقسامات كثيرة مرَّ بها النظام العربي عبر مسيرته الطويلة، فإنه ظل متماسكاً نسبياً حتى منتصف سبعينات القرن الماضي، ربما بسبب وجود محور مصري-سعودي- سوري كان لديه ميل طبيعي للالتئام خلال الأزمات والمنعطفات التاريخية الكبرى. غير أن هذا التماسك راح يتآكل تدريجياً إلى أن بدأ ينهار كلياً في أعقاب ثورات «الربيع العربي» التي أدى فشل معظمها إلى اشتعال حروب أهلية وفتن طائفية، وأطلق العنان لتدخل قوى إقليمية ودولية في الشؤون الداخلية للعالم العربي بطريقة غير مسبوقة. وبينما راهن البعض على صمود وتماسك محور مصري – سعودي ظهر في إعقاب إزاحة جماعة «الإخوان» وسيطرة المؤسسة العسكرية على السلطة في مصر في منتصف عام 2013، وانعقدت آمال عريضة على قدرته على انتشال النظام الإقليمي العربي من هوة سحيقة وقع فيها، إلا أن فشل المحاولات الرامية لتشكيل قوة عربية مشتركة للتصدي للإرهاب، ولكل ما يشكل مصدر تهديد للأمن القومي العربي، كشف عن مواطن الخلل في هذا المحور وساعد على تبديد الآمال العريضة التي عُلِقَت عليه.

على صعيد آخر، يتوقع أن يؤدي وصول اليمين الأميركي العنصري بقيادة دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، واحتمال وصول قوى يمينية مشابهة إلى السلطة في عدد من الدول الأوروبية المهمة خلال 2017، إلى تعميق أزمة النظام الإقليمي العربي في المرحلة المقبلة وليس إلى التخفيف من حدتها. فمن الواضح أن هذا اليمين سيتوحد لتمكين إسرائيل من تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، مع الحرص في الوقت نفسه على دمجها في المنطقة العربية تحت مظلة «مكافحة الإرهاب». ولأن المحاولات الرامية لإصلاح النظام الإقليمي العربي بصيغته الراهنة باءت جميعها بالفشل، أظن أن الحاجة باتت ماسة لتفكير خارج الصندوق بحثاً عن صيغة فكرية ومؤسسية تعيد بناء النظام العربي على أسس وقواعد جديدة.

يحتاج النظام العربي في تقديري إلى «رافعة» لا تقدر عليها سوى «مجموعة دول نواة» تتوافر فيها شروط ومواصفات معينة، أهمها: احترام الدستور والقانون، التداول السلمي للسلطة، الاعتراف بحقوق المواطنة كاملة من دون تمييز، وضع حد فاصل بين المجالين الديني والسياسي يحول دون خلط الأوراق. ولأن هذا النوع من الدول لم يظهر بعد في عالمنا العربي، فمن المتوقع أن تسوء الأوضاع العربية بأكثر مما هي عليه الآن قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر لن يلوح في أفق هذه المنطقة قبل أن تضع الحروب المشتعلة فيها أوزارها، وتعود الجيوش أو القبائل المتحكمة بأقدار الشعوب العربية إلى ثكناتها ومواقعها الطبيعية، وتصبح صناديق الاقتراع هي الحكم الوحيد في تحديد النخبة أو النخب الأجدر والأقدر على تولي السلطة وصياغة السياسات التي تعبر عن طموح الغالبية.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري