ليس ثمة رواية رسمية متكاملة ومتماسكة بعد، تشرح ما جرى في الكرك. المعلومات التي أدلى بها مسؤولون عصر أمس عما حدث في القطرانة، وفي قلعة الكرك من بعد، كانت متاحة بالصوت والصورة قبل ذلك بساعات طويلة، وعلى لسان شهود وقفوا على ملابسات ما حصل عند “قهوة خالد”. وبينما كان وزير الداخلية يتحفظ على كشف هوية الإرهابيين الأربعة، كانت مصادر أمنية قد سربت صورهم لمواقع التواصل الاجتماعي، وهي صور نقية تكفي لتحديد أسماء الأربعة، من دون انتظار بيان رسمي.
لا شك أن “المواطن الصحفي” قد أربك الرأي العام بروايات ومعلومات غير دقيقة. لكن عديد الفيديوهات والتقارير المتداولة كان مصدرها رسميا؛ فمن كان يقف عند جثث الإرهابيين داخل القلعة ليصورها وينشرها غير رجال الأمن؟ الثغرات التي ظهرت في إدارة حوادث إرهابية سابقة هذا العام، تكررت في عملية الكرك الإرهابية؛ فوضى المرجعيات، وغياب التنسيق، والارتباك، وكأن ما حصل تجربة أولى لم نواجه مثلها من قبل. وما أخشاه أن يكون الدافع وراء عدم كشف التفاصيل هو تجنب سؤال المسؤولية.
هناك قدر مفهوم من الحذر والتأني؛ فالأولوية في مثل هذه الحالات هي لجمع المعلومات، والإحاطة بتفاصيل أمنية قد تفيد في كشف خلايا أخرى تتحضر لتنفيذ عمليات إرهابية. لكن التحدي الذي نجحت دول متقدمة في التغلب عليه، يتمثل في تطوير آليات لإدارة الأزمات تحفظ هذه الأولوية، وتلبي في الوقت ذاته حاجة الجمهور لمعلومات شافية عما يدور حولهم من أحداث.
كان يمكن أن يكون المسؤولون أكثر صراحة مع الناس، ويبلغوهم بوضوح أن الهدف من تأخير الكشف عن أسماء أعضاء الخلية الإرهابية هو امتصاص حالة الصدمة عند ذوي الشهداء أولا، وتشييع جثامينهم، ومن ثم تقديم المزيد من التفاصيل عن الإرهابيين. كان ذلك سيلقى تقدير الناس جميعا.
والمسؤولية هنا لا تقع على عاتق المسؤولين الإعلاميين، بل على أجهزة الدولة التي تحوز على المعلومات ولا تجيد التصرف بها.
بالعودة إلى مجريات العملية في محيط قلعة الكرك؛ فباعتقادي أن أثمن وأعظم ما حصل بعد شجاعة الشهداء من رجال الأمن والدرك، كان ردة فعل أبناء الكرك العفوية دفاعا عن هيبة مدينتهم وقلعتهم التاريخية. لم يحصل في مكان في العالم شهد مثل هذه الأعمال الإرهابية، أن تدافع المدنيون بما توفر لهم من أسلحة لمواجهة إرهابيين مسلحين وخطرين يقتلون بلا رحمة.
كان تدافع أبناء الكرك على أبواب القلعة أقوى رسالة توجه للعالم الخارجي، يؤكد الأردنيون من خلالها موقفهم الشجاع ضد الإرهاب والإرهابيين، حتى لو كانوا من أبناء مدينتهم أو عشيرتهم.
هذا مكسب كبير ينبغي البناء عليه، وعدم تفويته بالتركيز على هفوات ارتكبها مواطنون عاديون من دون قصد.
ينبغي الاحتفاء بهؤلاء الأبطال، لا لومهم على شجاعتهم وتفانيهم نصرة لمدينتهم ووطنهم. صحيح أن مواجهة جماعات إرهابية مدربة يتطلب قوات محترفة، وليس من الصواب أبدا تعريض مدنيين لهكذا مخاطرة؛ لكن ردة الفعل الشعبية دليل حي على أن الأغلبية الساحقة من شعبنا هي في خندق الدولة في حربها ضد الإرهاب، وهي ليست حرب الجيش والأجهزة الأمنية فقط، بل المواطنين كافة. ليس هناك في عملية القلعة رسالة أبلغ من هذه.