هل ثمة حاجة أو ضرورة قتالية لتدمير المدن وقتل الأطفال والنساء وغير المحاربين، كما يجري في حلب وفي مدن وبلاد أخرى؟ وأسوأ من ذلك تقبل هذه الممارسات المبالغ في قسوتها وبشاعتها وتبريرها، بل والاستمتاع بها كما لو أنها عمل مبهج. كيف يبتهج إنسان بالقتل حتى عندما يعتقد أنه مبرر ولا مناص منه؟ كيف يفرح لقتل أطفال وتشريد وتجويع وإهانة الناس؟
كنت قد أشرت في مقالة “تحويل السلوك الإنساني إلى تجارة” (في “الغد”، بتاريخ 10/ 11/ 2016) إلى كيف يصمم السلوك الإنساني أو يدفع في اتجاهات تشجع على استهلاك سلع ومنتجات قائمة ابتداء على هذا السلوك. لكن الأحداث الكبرى والكوارث، بل ومنتجات تجارية أيضا، أظهرت أن السلوك التدميري لدى الإنسان يمكن تطويره وتوجيهه في الحروب والتجارة والصراعات والاستهلاك أيضا.
سمعت تفسيرا لظاهرة الهلع الذي يصيب الناس فيتهافتون على المخابز والمحال التموينية، بأنها ذاكرة الخوف؛ سواء الخوف الحديث، أي التجارب القريبة في غضون ثلاثة أو اربعة أجيال، أو ذاكرة الخوف العميقة جدا على مدى مئات آلاف السنين في التاريخ البشري، والتي شكلت وأعادت تشكيل الجينات البشرية لتكون متحفزة دائما باتجاه التهديدات.
وخطر لي تفسير بأنها طقوس ورموز احتفالية كما نفعل بالأعياد؛ وقد كانت الأعياد مرتبطة بالمواسم وخاصة المطر والفصول. لكن قرأت مؤخرا لكاثلين تايلور في كتاب “القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري”، أنها ذاكرة تعود إلى القسوة التي صاحبت الصيد وجمع الثمار، بسبب الاعتقاد بندرة الموارد وضرورة الصراع عليها والقتال لأجلها. ثم طور السلوك إلى منع الناس من الحصول عليها حتى في حالة وفرتها ومراكمتها. أعجبني هذا التفسير، خاصة وأني رأيت الناس يشترون كميات هائلة من الخبز والمواد التموينية أكثر مما يحتاجون إليه. مؤكد أن ذلك ليس لأجل التخزين فقط، لكن ليمنع الشخص الناس الواقفين في طابور طويل خلفه من أن يأخذوا شيئا. ثمة أناس لا يشترون من المحال التموينية ليؤمنوا الغذاء لأنفسهم، ولكن ليمنعوا الآخرين من الحصول على الطعام.
الواقع أن علماء وفلاسفة كثيرين شغلوا بالنزعة التدميرية لدى الإنسان؛ مثل برتراند رسل واريك فروم. ويلاحظون أنها وإن لم تكن نزعة أصيلة، فإنها قوية وراسخة، وتفسر كثيرا من التاريخ والسلوك، والسياسة والثقافة والتعليم والفتاوى الدينية والاستثمار وإنتاج وتوزيع السلع والخدمات والمؤسسات العامة والتجارية… كثير من أنظمة وسياسات بنوك وشركات اتصالات وتأمين على سبيل المثال! وقد حولت أفكار من هذا النوع عددا كبيرا من رجال الأعمال والمهندسين والمبرمجين والمصممين إلى أثرياء. وعلى سبيل المثال، الأفلام والبرامج السينمائية والتلفزيونية، وألعاب المصارعة والقتال، وألعاب الأطفال والكمبيوتر، وخدمات وعروض القمار والتسلية والبيع والشراء عبر الشبكات أو في الأندية والأسواق و”المولات”… كيف تكون الوجبة المجانية التي تقدمها نوادي القمار تعويضا يشعر المقامر بالراحة والسرور برغم الخسائر!
وعلى نحو عام، فإن الأنظمة التسويقية والإنتاجية والتجارية والتكنولوجية تعمل لصالح مصمميها. ويمتد ذلك إلى السياسة والحروب والسلاح! ففي الصراع، كما تقول كاثلين تايلور، نرى أنفسنا كما لو كنا هم. وسوف تتحطم الصورة فقط عندما يتنازل ويتوقف أحد الجانبين عن إقصاء الآخر، ويرفض نمطيات الشر الشيطاني التي تبررها القسوة الفظيعة بأننا مختلفون.
إن الخطوة التالية لاستخدام القسوة كنوع من الإرهاب، هي أن تصبح معاناة الضحية نفسها جائزة ومكافأة تسعد المجرم. وبشكل ما أو لسبب ما، يجد المجرم لذة وسرورا في عذابات ضحيته التي كانت قبلا مجرد فائدة له.