انتصار آخر حققه بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس واللبنانيون والعراقيون في حلب. فقد تمكنوا من الانتصار على الصورة. على صورتهم وهم يقتلون سوريين. فالعالم تواطأ معهم إلى حد صار فيه قولهم إنهم يقتلون إرهابيين أصدق من صورتهم التي تكشف أنهم يقتلون أطفالاً ومدنيين. وهذا نصر يفوق في النهاية نصرهم على الفصائل السورية المعارضة.
وهو درس مفاده أن للمجرم مكاناً محفوظاً في هذا العالم. المجرم الذي لا يُمكن أن يُعرَف بغير هذه الصفة. هي مجال تفوقه الوحيد، وهي مصدر الاعتراف الدولي به. كن مجرماً وستنال اعتراف العالم بحقك في أن تكون موجوداً. هذا هو درس حلب. لا شيء يُفصح عن هذه المعادلة الرهيبة أكثر مما يجري في حلب. انتهت جولة من جولات القصف والقتل، وعلينا أن ننتظر تصريحاً من المندوب الأممي دي ميستورا يطلب فيه من الفرقاء التعامل مع الوقائع الجديدة الناجمة عن جولة القصف الأخيرة، وقد لا يخلو تصريحه من تضامن مع الضحية.
والحال أن تواطؤ العالم على أهل حلب فاقه أمر آخر، هو أن يعلن محور الممانعة النصر على المدينة. «المقاومة» انتصرت في حلب، وهي انتصرت هناك في اليوم الذي كانت طائرات إسرائيلية تقصف مواقع لها بالقرب من دمشق، ومن دون أن تواجه بغير الصمت.
صمت في دمشق، وشجاعة المدافع في حلب. نصر هنا ونصر هناك. انتصار أذلاء دمشق على حفنة محاصرين في حلب، وعلى ما تبقى في المدينة من فقراء. و «النصر» إذ يعلن عن نفسه في صحف اليوم لا يخجل من صمته على هزيمة موازية.
إنه «نصــر» هائل فعلاً، ذاك أن ما يجري في المدينة هو سحق لأي قيمة ترتفع عن القوة أو تسعى لغيرها. بشار الأسد، ومن حوله أشرار العالم، لهم الحق في قتل هؤلاء المدنيــين. الصور قالت ذلك. الحـــيرة في إطلاق الحـــكم على الفعلة. سعي العالم لإيجاد لغة تقبل ما يحصل، وتنسجم معه. «نريد أن نفاوض أحداً حول ما يجري»! أو «لا بد من التعامل مع الأمر الواقع»! أو «لا يمكن استــبعاد الروس عن أي تسوية سياسية»! هذه عبارات من قبيل اعتراف العالم بحق بشار وأشراره في قتل من يقتلون في حلب، وهي قيلت أثناء شن الغارات، وفي اليوم الذي انتشرت فيه صور فظيعة من المدينة.
ليست التجربة الشيشانية هي ما يكرره الروس في حلب. هذه المرة ثمة شيء أقوى من تدمير مدينة وقتل أهلها. الجديد في حلب أن القتل والتدمير يحصلان تحت أنظار العالم. كل العالم. في غروزني، وصلت صور الدمار بعد أكثر من سنة على حصولها، وفي ذلك الوقت منعت الصحافة من تغطية الجريمة. أما في حلب فيصل إلينا لهاث الأطفال، وتصلنا قصصهم لحظة بلحظة، وهم يموتون قبل أن تصل أنظارنا إليهم في صورهم، فيكون لنا السبق في هذه المحادثة البائسة مع القتيل. الطفلة الحلبية لم تتمكن من معرفة أن «هاري بوتر» الذي تحبه أرسل إليها كتبه عندما علم بشغفها بكتبه. ماتت الطفلة بقذيفة روسية ووصلت الكتب لاحقاً إليها. هذا كله لم يثنِ القاتل عن الإمعان في القتل، وهذا فارق هائل، فالمهمة في حلب تتخطى تدمير المدينة وقــتل أهلها، لتـــشمل أيضاً إنهاء أي وهم بقيــمة القتل وبمعناه، وجعله فعلاً عادياً ومألوفاً ومعترفاً به بصفته تفوقاً أصلياً وجوهرياً يمارسه القوي، فقط لأنه قوي، حتى لو كانت القوة في هذه الحال غريزة حيوانية. وهي أيضاً اعتراف العالم بحق القوي في القتل، وهذه معادلة لن تبقى بعد اليوم مقتصرة على حلب. فـ «الشرعية» التي اكتسبتها الجريمة موثقة هذه المرة، ولن يتمكن أحد من دحضها. المجرم أينما كان سيستحضر حلب ليقول للعالم أن جريمتي لا ترقى إلى هذه الجريمة التي قبلتموها جميعكم.
لا ينطوي هذا الكلام على أي مبالغة. التكالب على المدينة لا اسم آخر له، وممارسوه لا يسعون أصلاً لدفع هذا الاسم عن أنفسهم وعن فعلتهم. «فليمت من يموت، الأهم أننا نريد المدينة». «العالم يرى أننا حفنة ذئاب؟ لا بأس، فهو سيقبل شركاء ذئاباً»، وهم محقون في ما يعتقدون، ذاك أن «البحث عن شركاء في العملية السياسية» أملى قبول التعامل مع قاتل وانتظار فراغه من مقتلته.
هل من شيء أكثر استدراجاً للذهول من حقيقة أن العالم ينتظر بشار الأسد حتى يفرغ من تدمير حلب وإفناء أهلها حتى يُباشر «العملية السياسية». فليتخيل المرء نفسه هناك، طفلاً أو امرأة أو مقاتلاً. المعادلة تقضي بأن العالم سيتدخل فور إنجاز بشار الأسد مهمة قتله!
حين باشر بوتين مهمته في المدينة، استحضر العالم تجربة غروزني. لقد ضُرب صمت على ما حصل هناك أيضاً. لكن الصمت وجد مخرجاً له يتمثل في أن أحداً لم يُعاين ما جرى في العاصمة الشيشانية، وكثيرون منا فشلوا في الوصول إلى الشيشان حينذاك. ليست هذه حال حلب. الصمت لن يسعف العالم. المدينة أُحيلت ركاماً تحت أنظاره. القيم أيضاً صارت ركاماً، وأي ادعاء بعد اليوم لن يستقيم.
غير أنّ ثمة قبولاً أخطر من قبول العالم، بصفته هيئات سياسية وقيمية، بأن تُدمر مدينة ويُقتل أهلها تحت أنظاره. إنه قبول الجماعات والمجتمعات حول المدينة، وصمتها حول ما يحصل فيها. نعم، نحن نهضم ما يجري هناك بشيء من الغضب، ولكن بميل إلى القبول وبإشاحة النظر عن وجه الضحية وعن وجه القاتل.
وبعد اليوم لن تقوى كرامة على النهوض في وجه جلاد. الدرس الحلبي كبير جداً على هذا الصعيد. ولكي تكون منتصراً عليك أن لا تخجل بارتهانك لإرادة القوي، وأن تكون بلا قيم وبلا كرامة، وأن تعلن انتصارك على ضعفاء قومك بلا وجل ولا خجل، وأن تضرب صفحاً عن الطائرات الإسرائيلية حين تأتي كل يوم لتأديبك.
هل تذكرون التظاهرة الإسرائيلية في تل أبيب عشية حصار بيروت؟ لم يجرِ لحلب ربع ما جرى لبيروت في تل أبيب.