طبعاً، ليس العام الحالي هو الأول الذي يُصدر فيه ديوان المحاسبة تقريره “السنوي”. وخلال سنوات مضت، عكف صحفيو “الغد”، كل بحسب القطاع والمؤسسة التي يتابع أخبارها، على تلخيص المخالفات التي يسجلها الديوان في تقريره.
لكن المفاجئ واللافت اليوم هو كيفية تعاطي المجتمع مع تقرير هذا العام. وهو تقرير يؤكد –بداية- بُعداً إيجابيا يتمثل في أنه ما تزال لدينا مؤسسة تُعنى بضبط المخالفات كافة، كبرت أم صغرت؛ لأن كادر الديوان، من مسؤولين وخبراء وموظفين، ما يزالون مصرين على تطبيق القوانين والتعليمات، فلم يتأثروا إلى حد كبير بأحوال مؤسسات أخرى لا يحترم مسؤولوها القانون، وضمن ذلك عدم حرص بعضهم على كيفية إنفاق المال العام.
أما الجانب السيئ، فهو أن ثمة ملاحظات ومخالفات رصدها الديوان منذ سنوات، وما يزال يرحلها في تقاريره سنة تلو أخرى، من دون أن تكترث المؤسسات المعنية لكل ما يقول؛ فكان إهمال التقرير ونتائجه جليا في كثير من الحالات! وهو ما يعني أن عديد مسؤولين يستخفون بما يأتي في التقرير، ولا يرون أي ضرورة لتصويب الحال والتراجع عن الخطأ.
تقارير ديوان المحاسبة، في المحصلة، ليست انعكاسا فقط لحال الإدارة العامة التي ساءت، بل هي مرآة لعقلية بعض المسؤولين الذين لا يكترثون أبدا للمال العام، بما يفسر استمرار العديد من أشكال الهدر في الإنفاق والتطاول على القانون وعدم احترامه؛ إنْ بترحيل المخالفات من تقرير لآخر، أو بمواصلة اقترافها من مسؤول عقب آخر!
هكذا يكون المطلوب تعديل التشريعات، بحيث يلاحق كل مسؤول يضيّع المال العام ولا يحترم القانون، فيتقلص بالنتيجة حجم تقرير ديوان المحاسبة، بدل أن يتضخم عاما بعد عام كما هو الواقع الآن، نتيجة عدم إصلاح الأخطاء.
عودة إلى الجانب الآخر لجهد ديوان المحاسبة؛ فقد جاء الاهتمام الشعبي بتقرير هذا العام استثنائيا؛ إذ تصدرت نتائجه مواقع التواصل الاجتماعي لأيام، وصارت حديث الصالون والسهرات العائلية، لكأن الناس غير مصدقين أن مثل هذا يحدث في بلدنا! وليكون السؤال: لماذا غضب الناس هذه المرة، وإن عبروا عن ذلك بالتهكم، من مضمون التقرير الخاص بالعام 2015، رغم أن تقارير السنوات الماضية لم تختلف كثيرا في نتائجها، بل وربما تضمنت مخالفات أهم وهدراً أكبر؟ وهو اهتمام شعبي قد يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن الديوان يصدر هكذا تقرير لأول مرة!
التفسير، بصراحة، هو مزاج الناس السيئ الذي لم يعد يتحمّل مثل هذه الأخبار المستفزة، مع تعاظم الشعور بضيق الحال بحكم محدودية المداخيل، وعدم تحسن حياتهم خلال السنوات الماضية لأكثر من سبب. ومن ثم، صار أي مسلك رسمي فيه هدر وإضاعة لأموال الخزينة، مثيراً لحفيظة الأردنيين.
كذلك، فإن تكرار المخالفات يعني أن الجهات الرقابية الأخرى المسؤولة عن متابعة تقرير ديوان المحاسبة، لا سيما مجلس النواب، لا تقوم بدورها في متابعة وتصحيح المخالفات، حتى صار تسليم واستلام التقرير تقليداً سنويا لالتقاط الصور ونشرها في الإعلام فحسب!
وقبل ذلك، فإن مضمون تقارير الديوان السنوية تؤكد أن الحكومات المتعاقبة لم تسع إلى تصحيح اعوجاج بعض مسؤوليها، بل وتطورت نوعية المخالفات حداً يثير الغضب والتندر أيضا.
بحسب ما يزعم بعض المسؤولين، فإن ديوان المحاسبة بإجراءاته يعطّل العمل ويعيق الإنجاز. وإذا كان هذا صحيحاً، فيكون المطلوب ليس مخالفة القوانين والتعليمات، بل تعديلها، لتكون صديقة للإنجاز كما يرغبون!
الخطر أن تبقى ملاحظات الديوان تتكرر من دون أن نصلح واقعنا. ولسان الحال هو: سنبقى نخالف طالما ضاعت هيبة القانون، ولم يعد الالتزام به قاعدة من قواعد العمل العام.