خلفيات التطاول على فيروز/ عيسى الشعيبي

تدور في لبنان، منذ أسبوع، معركة قيمية، ذات أبعاد فنية اجتماعية أخلاقية سياسية مركّبة، ساحاتها هذه المرة شاشات التلفزيون وصفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي؛ انخرط فيها سياسيون ومثقفون وإعلاميون، وغيرهم من النخب والقوى الحزبية المحلية، وتبادلوا التهم على خلفية قيام حزب الله بمنع بث أغانٍ لفيروز، خلال مناسبة طلابية عابرة، جرت وقائعها في كلية الهندسة التابعة للجامعة اللبنانية الرسمية.

حين يتصل الأمر بفيروز، بما تمثله وترمز إليه من معانٍ باذخة، يتخطى الحدث، بمغزاه ومعناه، حدود لبنان، ويصبح أكبر من شأن تفصيلي من شؤون بلد يفيض بالأخبار اليومية المسلّية. كون هذه السيدة التي لا يختلف اثنان في العالم العربي على تساميها في الوجدان المشترك للأجيال المتعاقبة، وعلى علوّ قامتها الفنية، باتت منذ زمن بعيد شأناً عربياً عاماً، يخص ملايين المحبين لها، المفعمين إعجاباً بصوتها ونصوص أغانيها، وبشخصيتها النادرة.

وعليه، فإن هذه المساهمة، وغيرها من المداخلات الخاصة بالتطاول على مقام فيروز الذي لا يطاله باع، ليست من قبيل التصيّد لأخطاء حزب الله الكثيرة، منذ أن تحول من قوة مقاومة محترمة إلى قوة احتلال مدانة؛ إذ امتدت الانتقادات والإدانات لهذ التصرف الذي تبناه حزب الرايات السوداء جهاراً نهاراً، ودافع عنه من دون أي حرج، إلى أوساط اجتماعية لبنانية، بعضها ينتمي إلى بيئة الحزب المهيمن على مقاليد الحياة العامة في أكثر بلد عربي منفتح على المدنية والحداثة.

وكان لهذه الواقعة المثيرة أن تمر مرور الكرام، لو أن الحزب المتعالي، الذي يشعر بفائض قوة لديه، اعتذر عن مثل هذه الحماقة، أو حمّلها لمجموعة طلابية تصرفت من تلقاء نفسها. إلا أن الشعور بالعظمة والاستعلاء، ناهيك عن الموقف العقائدي للغناء، حتى وإن كان فيروزياً، جعل الحزب الممانع يمضي قدماً في سقطته الأخلاقية هذه، مستنكراً غضب المحتجين، وزاعماً أن في نفوس منتقديه موقفاً ثأرياً من ثقافة المقاومة.

إذ بدل أن يخفض الحزب، المقاتل تحت راية الولي الفقيه، جناحاً صغيراً، أمام موجة عالية من الانتقادات والاعتراض، داخل لبنان وخارجه، المستهجنة لموقفه الرجعي من تراث فيروز العابق بالأصالة والعذوبة والذائقة الفنية الرفيعة، راح المعبرون عن رؤية الحزب “الإلهي” المعادي لثقافة الحياة، وللحق في التنوع والجمال، يكيلون الاتهامات لكل من صدمه ذلك التصرف المماثل تماماً لسلوك من يسميهم الحزب باسم التكفيريين، ويتبارى معهم على مضمار التشدد والأصولية، ناهيك عن وحشية الارتكابات الإجرامية.

والحق أن خوض المعارك “الدونكيشوتية” ضد الثقافة والفنون والحرية والإبداع، هي دائماً معارك خاسرة، فما بالك إذا كانت المعركة ضد قامة فيروز الباسقة معركة طائشة إلى هذا الحد، وكانت الملايين التي لا شأن لها بحروب حزب الله في سورية والعراق واليمن، غير معنية بمسوغات هذا الحزب ولا بمبرراته الحربية، وإنما معنية فقط بصباحات فيروز الجميلة، وبثراء الفن الرحباني الذي لوّن حياة الناس العاديين، وهوّن مصاعب هذه الحقبة الزمنية التي يمكن وصفها بالحقبة الفيروزية.

ليس لدينا أدنى قلق حول المآل الأخير لهذه المعركة المحسومة سلفاً لصالح ما تمثله ومن تمثلهم فيروز في طول البلاد العربية وعرضها. إلا أن التعرض لصاحبة المقام الصامتة صمت أبي الهول، كان مناسبة كاشفة لتمثلات ثقافة متعصبة، تتغذى موضوعياً من ثقافة “داعشية” مشابهة، رغم ما يبدو على السطح بين الثقافتين المتطاحنتين على الأحقية والصواب والمظلومية، من فوارق جزئية. وقد جاءت هذه الواقعة غير المعزولة عن زمانها ومكانها، لتشير إلى جزالة القواسم المشتركة، المضمرة منها والمعلنة، بين “داعش” وحزب الله.

وليس أدل على ذلك من شريط فيديو قديم نسبياً، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في أعقاب هذه الواقعة المخزية، تحدث فيه زعيم حزب الله بالصوت والصورة عن رؤيته للفن المعاصر، قائلاً: إن الأغاني تميّع الأمة وتقوض من عزيمتها. وهو قول أحسب أنه الجذر الحقيقي الغائر وراء هذا التطاول على فيروز، ترجمه طلاب الحزب الباحث عن طريق القدس عبر الزبداني وحلب إلى فعل ردعي، كأي شرطة دينية، حينما انقضّوا على زملاء لهم كانوا يحيون مناسبة خاصة بموت زميل لهم في حادث طرق.

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات