ما حدث في الجامعة الأردنية الأسبوع الماضي، أكثر من فضيحة، لأنه يتعدى المشاجرة التي تمت، ويشير إلى الاحتقان الشديد والخطر بين شبابنا، والذي يترجم إلى عنف في العديد من الأحيان. كما يشير إلى فشلنا الذريع في بناء دولة المؤسسات. ما حدث مؤشر خطير على القصور في تطوير مفاهيم عديدة، لا يمكن من دونها لأي دولة أن تدعي التقدم والحداثة، مثل سيادة القانون، وإعلاء الهوية الوطنية فوق أي هوية فرعية، وبناء المؤسسات الراسخة والقوية.
الدولة مسؤولة عن هذا التدهور، كما نحن. نراقب عن بعد مثل هذه الحوادث، ثم نلقي اللوم على فئات ضالة لأننا لا نريد الاعتراف بأننا قصرنا وما نزال في بناء دولة المؤسسات.
في العام 1986، وأثناء عملي في وزارة التخطيط، كتبت مقالا في صحيفة “جوردان تايمز” بعنوان “الديمقراطية في الأردن: شكل أو محتوى؟”، مفاده أن الدولة لدينا تعنى بالأوعية الفارغة أكثر من اعتنائها ببناء المؤسسات. وهو ما أثار حفيظة رئيس الوزراء آنذاك، فلم يرق له أن يكتب موظف في الحكومة بهذه الطريقة.
بعد ثلاثين عاما من ذلك المقال، وقد أصبحت في الستين من عمري، هل أستطيع الزعم أننا نخطو بثبات نحو بناء دولة المؤسسات والقانون؛ ولا أقول دولة ديمقراطية، ولكن دولة على الطريق نحو الديمقراطية، حتى لا أثير حفيظة من يستخدم الحاجة المبررة للتدرجية في الإصلاح ذريعة للجمود كي لا يخسر مصالحه، كما شهد ذلك بوضوح كل من حاول الإصلاح، وأنا منهم، من داخل السلطة التنفيذية؟
هل يمكن لنا اليوم القول إن مجلس النواب الحالي يتمتع بقبول شعبي واستقلالية أكبر مما كانت عليه الحال في العام 1989؛ أي قبل قرابة ثلاثين عاما؟ هل يمكن أن ندعي أن الحكومة اليوم صاحبة ولاية عامة أوسع من تلك التي كانت تتمتع بها قبل ثلاثين عاما؟ أو أن جامعاتنا اليوم أفضل من جامعاتنا في الثمانينيات؟ هل ضاقت فجوة الثقة بين المواطن والمؤسسات بعد ثلاثين عاما، أم اتسعت؟
ليس هذا سردا عاطفيا، بقدر ما هو دعوة لإعادة النظر جذريا في السياسات المتبعة، وبمشاركة مجتمعية. إذ لم يعد بالإمكان تغليف السياسات الفاشلة بحجج واهية، على شاكلة أن التقدم نحو الديمقراطية يخل بالأمن، أو بالعنتريات الزائفة التي تدعي الحفاظ على الوطن. ذلك أن نتائج هذه السياسات ماثلة للجميع، ولم يعد باستطاعة أحد إخفاؤها. فالعنف الجامعي يخل بأمن الوطن، وفجوة الثقة بين الناس والمؤسسات تخل بأمن الوطن، وغياب سيادة القانون ودولة المؤسسات يخل بأمن الوطن، وغياب الفرص الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمحاربة المؤسسية للفساد وتفشي ثقافة التنفيعات والواسطة، كلها تخل بأمن الوطن.
صحيح أنه ليس هناك حل سحري لمشاكلنا. لكن صحيح أيضا أن حل هذه المشاكل ليس مستعصيا. وقد وضعنا مرارا خططا لمعالجة هذه التحديات، كما وضع غيرنا. لكن ما يفرقنا عن غيرنا من الدول التي نجحت في تطوير نفسها، هو غياب الإرادة لدينا؛ لأننا نصر على معالجة تحديات الغد بحلول الأمس.
لا يبدو أن الشواهد الكارثية، كحادثة الجامعة الأردنية الأخيرة، ستحفز على تغيير السياسات، لأن الإطار الذي يحكم طريقة عمل النظام الريعي مختلف تماما عن الإطار التشاركي المؤسسي الإنتاجي الذي أدعو والكثيرون إليه. التدرجية التي أؤمن بها لن تأتي عن طريق السلطة التنفيذية، لأن أغلب القائمين عليها ليسوا معنيين بأي تدرجية نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي يدعو إليها جلالة الملك؛ وإنما ستأتي من خلال العمل الجماعي الحزبي الطويل النابع من المجتمع المدني، على أسس برامجية تحاكي حاجات المجتمع، وتحاول تجسير فجوة الثقة مع الناس. وكل ذلك ليس أولوية ملحة لدى السلطة التنفيذية؛ لا قبل ثلاثين عاما ولا اليوم.