آخر الرجال التاريخيين المحترمين/ عيسى الشعيبي

لسنا في مقام الرثاء ولا البكاء على رحيل القائد الأممي الثوري فيدل كاسترو؛ فمن هم في قامة العم فيدل، ومن هم في وزنه الراجح، لا يموتون أبداً، بل إنهم يزدادون حضوراً وخلوداً وألقاً في كتاب التاريخ الذي ملأه أبو الثورة الكوبية شبه المستحيلة، عنفواناً لا يليق إلا بالزعماء الاستثنائيين، أولئك الذين مضوا تاركين خلفهم إرثاً لا ينضب من التضحيات والصمود والبطولات المثيرة للخيال، والباعثة على الإلهام، خصوصاً وأن الحديث هنا عن رجل وقف في فم الغول، لم يطأطئ هامة ولم تنكسر له عين.

لقد اخترت صفة الاحترام من بين الصفات العديدة التي يستحقها هذا الكوبي الذي لا يشق له غبار، ووضعتها في العنوان أعلاه، كمفردة مفتاحية لتقييم سيرة الرجل الذي صنع فرقاً، ليس في حياة الجزيرة الكوبية فقط، وإنما في حياة شعوب أميركا اللاتينية ككل، إن لم نقل في مسار حركة التحرر العالمية التي كان كاسترو أحد أبرز قادتها المميزين بروح المبادرة والشجاعة والبذل، على نحو يقر به خصوم الراحل وأعداؤه، قبل قلة قليلة من الأصدقاء الملتاعين بغيابه الأبدي.

وأحسب أن صفة الاحترام هذه، أكثر الصفات انطباقاً على هذه الشخصية التاريخية الفذة، التي رغم مركزيتها الشديدة لم تصب بداء الفساد؛ هذا الداء الذي ضرب كثيرين ممن لم يدانوه منزلة، ولم يحكموا مثله نحو نصف قرن، إلا أن سيرهم مثقلة بالآثام التي لا تغتفر، الأمر الذي جعل من هذه الشخصية الكاريزمية نموذجاً في كيفية انتزاع الإعجاب والاحترام، حتى من جانب كارهيه ومحاصريه ومدبري اغتياله لمئات المرات.

ولعل الخلاف في وجهات النظر، والذي صاحب حياة كاسترو الطويلة، سوف يستمر بعد رحيله، وسيظل الانقسام حول هذا الرجل الذي لم تتسع لأحلامه الجزيرة الاستوائية الصغيرة، قائماً إلى سنوات أخرى طويلة. غير أن أحداً لا يستطيع نفي حقيقة أن الدنيا قد تبدلت حول رفيق تشي جيفارا مراراً وتكراراً، فيما ظل كاسترو قابضاً على جمرات الثورة بيدين عاريتين، من دون أن تبدر عنه ملامح ضعف، أو آهة ألم، طوال سنوات الجمر والرماد المديدة.

فقد ذهب الاتحاد السوفياتي، وهو الرافعة الكبرى لعهد كاسترو؛ ودالت دول كثيرة؛ وانتهى المعسكر الاشتراكي؛ واختل ميزان القوى العالمي؛ وتبدل مسرح السياسة الدولية؛ واختارت الصين طريق الرأسمالية، ولم يبق في معسكر الرفاق القدامى من يعوّل عليه حقاً، غير أن الثائر الكوبي العنيد، ظل ذلك الماركسي اللينيني شبه الوحيد، من دون أن يطوي الراية، أو يخفض جناحاً، أو يُصالح على المبدأ الذي اعتنقه شاباً، وظل عليه رغم الشدائد حتى النفس الأخير.

وقد تكون أفضل وسيلة لتقييم عهد كاسترو، بطريقة عادلة ومنصفة، الاحتكام إلى المعايير التي كانت سائدة في زمانه خلال النصف الثاني من القرن العشرين، حين كانت الحرية والاشتراكية والتقدم، هي المثل العليا لدى صف طويل من قادة العالم الثالث، أمثال جمال عبدالناصر ونهرو وسوكارنو، ممن كانوا لا يحفلون كثيراً بالديمقراطية والحريات العامة، وهم يواجهون التدخلات والمؤامرات الخارجية زمن الحرب الباردة والحروب بالوكالة بين المعسكرين الدوليين.

لم يكن واضحاً في حينه الخطأ التاريخي الكبير الذي ارتكبته حركات التحرر، وقادة حروب الاستقلال من ربقة الاستعمار والإمبريالية، عندما أسقطوا من حسابهم قيمة الديمقراطية، ومالوا نحو النزعة السلطوية. وهو ما يجعل ذلك الخطأ جسيماً على نحو أشد بمعايير هذه المرحلة الزمنية، التي تغيرت معها القيم والمفاهيم والمثل، وسقطت فيها الموانع والحواجز، وصار العالم أصغر، بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا العالم الرقمي الذي وضع البشرية في مسار جديد.

لقد أتيحت لي ذات مرة، من زمن بعيد، زيارة كوبا لمدة ثلاثة أسابيع، رأيت فيها فقراً لم أشهد له مثيلاً إلا في اليمن الجنوبي. غير أنني رأيت عزة نفس، وشعوراً بالكرامة الوطنية، وقوة شكيمة، لا تتحقق إلا في البلاد التي خاضت معارك استقلالها، وانتزعت حرياتها بالتضحيات، وصمدت في وجه المؤامرات، تماماً على نحو ما كانت عليه كوبا، منذ أن قاد كاسترو نحو ثمانين رجلاً، أسقطوا الجنرال باتستا، وظلوا قتاداً عصياً على الخرط، إلى أن عادت أميركا عن غيّها، ورفعت الحصار الجائر نسبياً هذا العام.

Related posts

كيف نخفف من خسائر الحرب؟* ماهر أبو طير

كلمة السر «في سرك»!* بشار جرار

كيف نتكيّف سياسياً مع المرحلة “الترامبية”؟* حسين الرواشدة