لا بـــأس بــتـــمريـــن ذهني يستعين به المرء لتمرير مرحلة الانتظار التي تقتضيها المباشرة بفهم ما حصل في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) في أميركا. فماذا عن شعور غير مبلور يتلخص بافتراض شبَه ما بين الطريق الذي سلكه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والطريق الذي سلكه آلاف الغربيين، سواء من «البيض» أو من أصول مهاجرة، إلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»؟
لا بأس باستعادة الدهشة والذهول اللذين رافقا الفعل الفجائي لواقعتي ترامب و «داعش»، فللمرء أن يفسر، بينه وبين نفسه، الأشياء بنوع استجاباته لها. فوز ترامب في ليلة غير مسبوقة وغير متوقعة، وسقوط الموصل في لحظة واحدة بيد «داعش»، يتشابهان في صدورهما عن مفاجأة. المسافة لم تعد هائلة بين الموصل وواشنطن، والعالم صار أضيق من أن نستبعد أن يُشبه ناخب ترامب الأبيض والمتوسط التعليم، متوسط تعليم آخر آتياً إلى «داعش» من بلجيكا.
ثمة انهيارات رافقت الظاهرتين، وخلل في جوهر النظام النفسي الجماعي الممسك بالمجتمعات التي وقفت خلف سلوك الناخب الأميركي الأبيض وخلف المهاجر من مجتمعات الغرب الواسعة إلى مجتمع «داعش» الضيق. والمرجح ألّا يكون الدافع المباشر واحداً في الحالين، إنما هو تحويل غير الممكن ممكناً، والانتقال العنيف من الهامش إلى المتن، والنجاح في جعل النقيصة إضافة، والتوظيف السهل لـ «الفصام الجماعي» في فعل إيجابي وسياسي… هذه كلها ما كان لها أن تتحقق لولا أن انهيارات أصابت جوهر نظام نفسي كان تماسكَ حول قيم حديثة أُنتجت خلال تقدم المجتمعات صاحبة الظاهرتين.
لا أحد كان يقف خلف تحول «داعش» إلى مصفاة أمراض الحداثة النفسية. فالتنظيم المسخ خاطب هؤلاء من تلقائه. قال لهم أن ثمة مكاناً يستوعب فصامكم ويجعل له وظيفة ويطرح عليه مهمات «مقدسة». وقال لهم أيضاً تعالوا لنحول جنوحكم إلى خيال ممكن التحقق، ولنجعل من كفاءاتكم مشاهد موت وقتل. فتقاطر الفصاميون الغربيون إلى «دولة الخلافة» وتولوا مهمة تحويل الصحراء إلى هوليوود موازية.
حصل ما يشبه ذلك، أو يوازيه، يوم الاقتراع الأميركي لدونالد ترامب. فأن يتحول الاقتراع إلى فعل ضمني يخبئه المقدمون عليه خلف طبقات غير سياسية من وجدانهم، فذلك فعل فصامي من دون شك. أن يتحول احتقار المرأة مثلاً أو إهانتها إلى قوة جذب انتخابية لها لمصلحة المُحتقِر والمُهين، ففي ذلك عودة إلى ما قبل السياسة في العلاقة بين الناخب والمُنتخب، وهي عودة غير «رجعية»، ذاك أنها مشحونة بقوة التقدم، وبما توفره الحداثة من تسهيلات.
قد لا يبدو التشابه واضحاً حتى الآن، ولا يكفي التشارك في انهيار حتى تنضج الشُبهة، وهنا ربما علينا أن ندفع بالمقارنة إلى مساحات أخرى، لا سيما أن الاقتراع لترامب كان فعلاً جماعياً بينما التقاطر الغربي على «داعش» تمّ على نحو فردي. لكن ما حصل في أميركا في 9 تشرين الثاني كان انقلاباً «غير سياسي» على كل شيء. خروج أميركا من نفسها، وهذا ناجم عن مؤشرات تشبه المؤشرات التي خرج في ضوئها «المجاهد الغربي» من نفسه بصفته غربياً. وهنا يضعف الفارق بين الأنا الجماعية والأنا الفردية، فالانهيار واحد، وفعل الاقتراع يبقى فردياً، كما هو فردي خيار امرأة فرنسية بمغادرة مدينة ليون إلى مدينة الرقة.
الناخب الأبيض المتوسط التعليم والريفي هو من انتخب ترامب، وهو فعل ذلك لأن الأخير «قصة نجاح بيضاء». والناخب المديني الجمهوري، ذاك الذي أخفى عن مؤسسات الاستطلاع نياته، هو من انتخبه أيضاً. وفجأة اكتشف العالم أن النظام، الأبيض أصلاً، طرح البيض خلفه، وأن آلافاً من الأميركيين يخجلون من الإفصاح عمن يرغبونه رئيسهم! ألا يردّنا ذلك إلى أولئك الفتية الذين أرسلهم نظام الحداثة الغربية إلى جامعاتهم محدثاً فصاماً رهيباً بين ما يتعلمونه في هذه الجامعات وبين ما يعيشونه من قيم أعيد بعثها فيهم بفعل ما تتيحه التكنولوجيا من ممكنات؟
العودة بالمرأة إلى تقديس جلادها في ظاهرتي «داعش» وترامب لا تبدو رجعية هذه المرة. نعم، اقترعت نساء أميركيات كثيرات لترامب الذي أهانهن في غير محطة، وبموازاة ذلك توجهت نساء من الغرب سواء بمفردهن أو برفقة رجالهن إلى دولة الخلافة التي تعتبر المرأة نقيصة الخلق وعورته، لكن في الحالين لابس الفعلة بعض من الحداثة في المظهر. فذكورية ترامب و «ماتشويّته» كانت جزءاً من عراضة رجل الأعمال القوي ومُستهلك المتع ومُبتذلها، والمُحاط بنساء يُبعدن عنه شُبهات التخلف التقليدية. وفي مقابل ذلك، ارتدت نساء «داعش» الغربيات البرقع وتولين مهمات لم يسبق أن أوكلتها الجماعات المتطرفة التقليدية إلى النساء، وبينها عمليات تزويج وتوسط بين «المجاهدين» ونساء محليات، مستفيدات من خبرات حصّلنها في حياتهن السابقة حين كن «سافرات»، وهذه كلها مثلت انقلاباً «تقدمياً» على ما أرسته جماعات الإسلام السياسي لجهة العلاقة السلبية بالمرأة.
المسافة بعيدة بين الظاهرتين، وخطوط افتراقهما كثيرة، لكن المرء يشعر بأن جسراً وهمياً يجعل من علاقتهما ممكنة، ذاك أن انهياراً جعل من الأوهام حقيقة وسهّل مهمة توظيفها في ظواهر جماعية. فترامب كان يعرف أن أميركيين يشعرون بأن اقتراعهم له «عيب سياسي»، وهم سيقدمون على ارتكاب هذا العيب على نحو ما يُقدمون على ارتكاب «عيوب» كثيرة لا يفصحون عنها. وهو أيضاً لم يشعر بأن في ذلك انتقاصاً منه، فالرئاسة في هذه الحالة هي اقتناص لحظة في سياق انهيار، ولا يُعيبها أنها امتداد لهذا الانهيار. والإغراء الذي يستدرج المضيّ في المشابهة لا يُضعفه الميل إلى تجنب السقوط في أخطائه، فلحظة الانهيار التي استثمرها ترامب ترد بقوة في مانيفستو «داعش»، أي «فقه التوحش»: ذاك أن فرض السلطة وإقامة الدولة ليسا عملية مراكمة، إنما هما استثمار للحظة انهيار النظام و «توحش المجتمع».
هذا الافتراض لا يدعي علاقة بين ظاهرتي انتخاب ترامب في سياق انهيار منظومة قيم غربية، وانهيار السلطة الذي قام على أثره «داعش». لكنّ تشابهاً يحضر، مع ذلك، لمراقب الظاهرتين، ويُعزز ميله إلى الاعتقاد بأن عالماً مختلفاً بدأ يُطل برأسه من بين أنقاض العالم الحديث، ومن المؤكد أنه ليس عالماً أفضل.