كان مشهد التلاعب بأوراق الاقتراع في جلسة المجلس النيابي التي انتخبت الجنرال عون رئيساً للجمهورية، مثيراً للشفقة. فالنواب كانوا يعلمون ان ما قد كُتب قد كُتب، وأن ميشال عون سوف يخرج من الجلسة النيابية مع لقب فخامة الرئيس، وأن لا شيء يستطيع إيقاف القضاء. فلقد وصلت لعبة الفراغ الرئاسي إلى نهايتها السعيدة. واقتنع الجميع بأن لا مخرج سوى بترئيس الرجل الذي نذر حياته من أجل الوصول إلى كرسي الرئاسة.
لذا بدا المغلّف الزائد في الدورتين الاقتراعيتين الثانية والثالثة مجرد عرقلة غير جدية، كما بدا اسم عارضة الأزياء العونية ميريام كلينك، مجرد محاولة للعب بأعصاب الجنرال العجوز الذي كان وجهه مساحة تعبير تراجيدية في لحظة كوميدية.
التزامن بين كوميدية اللحظة السياسية وتراجيدية الجنرال، هو السمة التي غلبت على جلسة الانتخاب. كان عون يأمل بأن ينال ثلثي الأصوات ويفوز في الدورة الأولى، لكنه لم يتوقع أن يضطر إلى خوض أربع دورات اقتراع، قبل أن يقف على المنصة كي يقسم اليمين بصفته الرئيس الثالث عشر للجمهورية.
وبعد تربعه على الكرسي الرئاسي متقلداً الأوسمة، اتخذت الصورة شكلاً طبيعياً، هزلية لحظة الانتخاب تراجعت، ومعها تراجعت تراجيدية ملامح الرئيس، لتحتل صورة رئيس الحكومة المكلف، سعد الحريري، والسعادة تشع من ملامحه، جالساً مع الجنرال الرئيس ورئيس مجلس النواب نبيه بري، داخل القصر الجمهوري، وهم يعلنون ولادة ترويكا جديدة سوف تحكم لبنان.
لكن صورة الثلاثي الجديد ناقصة، فكي تكتمل الصورة يجب أن يضاف إليها سمير جعجع، الذي يتصرف بصفته القابلة التي استولدت الرئيس، ووليد جنبلاط، بسخريته وتهكمه، وإيحاءاته بأنه يحتقر هذا الزمن السياسي، الذي لا يريد الخروج منه أو عليه.
غير أن صورة العهد الرئاسي، حتى اذا حولناها من ثلاثية إلى خماسية، تبقى ناقصة، بل تبدو مجرد اطار لصورة محجوبة تقع خلفها. اذ لم يكن لهذا اللقاء الثلاثي أو الخماسي أن يتشكل لولا شخص سادس، لا نرى صورته هنا، وهو غير معني بالظهور على هذه الطريقة. الرجل الغائب يجسّد حقيقة تصنع صورتها بطرق مختلفة عن هذا الكرنفال اللبناني. فهو يأتي من خارج الطبقة السياسية اللبنانية ويريد أن يبقى خارجها. قد نقول أن الثلاثي أو الخماسي طارئ على هذه الطبقة هو أيضاً، ما عدا وليد جنبلاط بالطبع، لكن طموحه هو الدخول فيها واقتسام جبنة الحكم مع بقية أركانها.
السادس لا يريد أن يكون جزءاً من هذه الصورة، لأنه أعلن نفسه حاكماً فوق الطبقة الحاكمة، فهو أتى إلى السياسة من مكان آخر أعطاه مكانة مختلفة. صحيح أن سعد الحريري يمتلك هو الآخر مكاناً خاصاً، لكن ارتباطه بالسعودية لا يعطيه مكانة من يرتبط بإيران، ويحمل رأسمالاً رمزياً اسمه المقاومة وحرب تموز، ويقاتل في سورية مع نظام الاستبداد بصفته امتداداً للقوة العسكرية الايرانية، أي بصفته غير اللبنانية.
لذا يبدو السيد حسن نصرالله هو المنتصر السياسي الأكبر، وسط غابة التعقيدات اللبنانية التي أوحت لسمير جعجع بأنه المنتصر، وسمحت للحريري بأن يخترع سردية انتصارية تحت عنوان أنه انتصر على الفراغ عبر تبنيه ترشيح عون.
من الواضح أن السياسة اللبنانية المليئة بتناقضات أمراء الطوائف وتحالفاتهم أكثر تعقيداً من أن يسجل فيها أي طرف انتصاراً حاسماً. كما أن التسوية الرئاسية مثلما تمّ اخراجها، تعطي من يشاء شعوراً بانتصار ما: المسيحيون انتصروا بانتخاب الجنرال القوي، والسنة انتصروا باقفال ملف الفراغ، والشيعة انتصروا بانتصار حليف حزب الله، رغم تجهم رئيس المجلس النيابي الذي بدأ يشعر بأن زمنه، والحاجة اليه بدأت تضمحل مع اضمحلال النفوذ السوري لمصلحة إيران. حتى من انتخب زوربا في دورة الاقتراع الثالثة، انتصر بسخريته من المنتصرين.
انتصار حزب الله ليس حاسماً، لكنه لبنة جديدة تعبّد مسار استتباع لبنان للنفوذ الايراني المتعاظم في المنطقة. لكن الأيام قد تحمل مفاجآت غير متوقعة، خصوصاً عندما يشعر الجنرال بأن صلاحيات رئيس الجمهورية، مثلما حددها الدستور، لا تفي طموحاته. لكن هذه التعقيدات لن تغيّر شيئاً من واقع الحال. فالقوى اللبنانية المعارضة لنفوذ حزب الله، اثبتت عجزاً سياسياً مزمناً، يلتقي مع عجز حلفائها الاقليميين في قيادة منطقة تعصف بها الزلازل، لذا جاءت غلبة حزب الله منطقية، وهي تمهيد لتطويب أمينه العام ولياً على أمر لبنان، يدير اللعبة السياسية من خارجها، وفوقها.
كان لا بد من تسوية ما، تنقذ طبقة سياسية كاملة ينخرها الفساد. فهذه الطبقة استسلمت للمتوفر لأنها لم تعد تصلح لقيادة وطن طمرته بالنفايات والديون. أما قدرتها على تدوير زوايا التعفن فهي نتيجة قرار القوى الاقليمية أو الدولية التي تتصارع بوحشية في المنطقة بأن لا مصلحة لها في انفجار لبناني لا جدوى منه.
في العهد الشهابي ارتفع شعار لا غالب ولا مغلوب، وهو شعار واقعي ومتواضع، أما عهد الجنرال الرابع الذي يتبوأ سدة الرئاسة فبدأ بتوليفة «الكل منتصر».
إذا كان الجميع منتصراً فمن هو المهزوم؟ وهل يُعقل أن يتم الانتصار على لا أحد؟
في الاحتجاجات التي رافقت طوفان النفايات ارتفع الشعار الأكثر تعبيراً عن واقع الحال في لبنان: «كلن يعني كلن». كل أطراف الطبقة الحاكمة بلا استثناء شركاء في هذه الكوميديا اللبنانية المتواصلة، لكن فات المتظاهرين، وأنا كنت واحداً منهم، جزء من الحقيقة، التي تقول ان احباط المواطنين الديمقراطيين وعجزهم عن بلورة مشروع بديل جذري لنظام الفساد والارتهان للخارج، يجعل منهم هم ايضاً هامشاً لهذه المعادلة، التي قد تطمر أصواتهم.
الخطر الحقيقي على هذا الوطن الصغير ليس آتياً فقط من طبقته السياسية الطائفية الفاســـدة والعميلة التي تمعن في اذلال المواطنين عبر تحويلهم إلــــــى أرقامٍ طائفية، بل يكمن أيضاً في الكسل والعجز والإحباط، الذي يجعل الديمقراطيين والعلمانيين خارج الملعب السياسي، وبذا تضيع المعاني، ويبقى لبنان ساحة يتلاعب بها من يمتلك القوة والمال، أو من يستطيع أن ينهب أكثر مقدماً لطائفته أو جماعته شعوراً وهمياً بالانتصار.