يبدو واضحاً أن قضية اللاجئين السوريين إلى لبنان ستكون أحد الملفات الرئيسة التي سينشغل بها عهد الرئيس ميشال عون، وهو أمر غير مستهجن إذا ما وضع المرء نفسه أمام حقيقة أن بلداً كلبنان استقبل عدداً من اللاجئين يساوي نحو ثلث عدد سكانه، مع ما يطرحه ذلك من تحديات لم يسبق أن واجهها بلد في التاريخ الحديث.
لكنه أيضاً سيكون مأسوياً إذا ما استعاد المرء خطاب الكراهية العوني حيال اللاجئين والذي مثل ذروته صهر الرئيس، الوزير جبران باسيل.
ومن المفيد أن يبدأ المرء بالنقاش مع «العهد الجديد» في هذا الملف تحديداً، بعبارة قالها الرئيس السوري بشار الأسد أمام مجموعة من الصحافيين الأجانب في اليوم الذي أعقب انتخاب عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وهي: «إن النسيج الاجتماعي السوري اليوم أفضل مما كان عليه قبل الحرب».
وبغض النظر عن الموقف الأخلاقي من كلام الأسد، فإن الترجمة العملية اللبنانية لهذا القول يجب أن تعني أن الحكومة السورية لا ترى أن في إعادة اللاجئين إلى بلدهم فائدة لسورية، بل أن عودتهم تعني بالنسبة إليها «إفساداً للنسيج الاجتماعي الذي تحدث عنه الرئيس».
والحال أنه من غير المتوقع أن يباشر العهد اللبناني الجديد تناوله هذا الملف انطلاقاً مما تمليه هذه الحقيقة من خطوات. ذاك أن خطاب العونية، على ما خبرنا، جزء من خطاب الترانسفير الذي كشفت مقولة من بات بعضهم يصفه برئيس «نظام الإبادة الجماعية» عن أنه في طريقه للتحول مقولةً رسمية للنظام.
ما إن وصل ميشال عون إلى بعبدا حتى تضاعفت مخاوف اللاجئين السوريين في لبنان، وترافقت مع تساؤلات عن المصير. فرئيس في سورية يقول إن سورياه لم تعد بحاجة إليهم، ورئيس في لبنان يطمح إلى إبعادهم عن ملجئهم اللبناني، والمجتمع الدولي يمارس ضغوطاً هائلة للحؤول دون دفعهم إلى دول اللجوء الغربية.
وإذا وضع المرء هذه الخريطة أمامه ليستنتج منها نيات العهد اللبناني الجديد حيال هذه القضية، فالسيناريو الذي سيخلص إليه يتمثل في أن «سورية الأسد» أو «سورية المفيدة» لم تعد تتسع لهؤلاء، و «لبنان حزب الله» سيمثل وجودهم فيه خريطة ديموغرافية لا تنسجم مع الطموحات المذهبية للحزب، وأوروبا ليست في وارد استقبالهم، فلا يبقى والحال هذه سوى نقلهم إلى شمال سورية، تلك المنطقة التي يرى الأسد أنها خارج سورياه.
كلام كثير بدأ يرشح عن تطلع العهد الجديد إلى ملاقاة الأسد في رغبته إبعاد اللاجئين عن تخوم «سورية المنسجمة». والمهمة وإن انطوت على قدر جامح من الخيال، من غير المستبعد أن تراود المخيلة الجامحة لمتوهمين نصراً من نوع ذلك النصر الذي حققوه في الانتخابات الرئاسية، لا سيما أن هؤلاء يقفون أمام خصوم لبنانيين سنّة أعلنوا استسلامهم واعترفوا بهزيمتهم.
في خطاب «الهلع اللبناني» من اللاجئين السوريين انعدام نزاهة مستفز حقاً. فلبنان الرسمي متورط حتى عنقه في مأساة هؤلاء، ذاك أن حزباً لبنانياً رئيساً، وهو شبه حزب حاكم، مسؤول عن هرب هؤلاء من مدنهم وقراهم. وهذا ليس تشبيهاً بعيداً، فاللاجئون السوريون إلى لبنان، معظمهم من مناطق في سورية قاتل فيها «حزب الله». فالقُصير والزبداني ويبرود وحمص، وأرياف هذه المناطق، يشكل أبناؤها أكثر من نصف عدد اللاجئين إلى لبنان! والحزب يسيطر الآن على هذه المناطق، من دون أن يكون مُطالباً من الحكومة اللبنانية بإعادة اللاجئين إلى بلداتهم مع ما تتطلب هذه الإعادة من ضمانات.
لكن انعدام النزاهة في التناول اللبناني لقضية اللاجئين لا يقتصر على غض النظر عن الدور «اللبناني» في مأساتهم، إنما يمتد إلى تضخيم الكلفة التي يدفعها لبنان جراء استقباله لهم. فالاتحاد الأوروبي يقول إنه يدفع سنوياً نحو 700 مليون يورو لتغطية أكلاف اللجوء إلى لبنان، وكذلك تفعل مؤسسات دولية أخرى، وهي مبالغ تتولى الحكومة اللبنانية وقنوات الفساد والهدر فيها تصريفها وفق مصالح جماعاتها.
اللغة العونية بحق اللاجئين تبقى لغة مشبوهة اذا ما استبعدت حقيقة المسؤولية اللبنانية عن مأساة هؤلاء. فالحزب الذي يقاتل في سورية يُمثل أكثر من نصف لبنان بين مناصر وحليف، وهو ممثل في كل مؤسسات الدولة والنظام، ولم يجد في هذه المؤسسات من يعترض مهمته في سورية.
لا يمكن استبعاد هذه الحقيقة عن تناول قضية السوريين اللاجئين إلى لبنان، فالقضية هذه ليست إنسانية فحسب، إنما هي في لبنان شديدة الارتباط بقرار «حزب الله» إلغاء الحدود وفتحها على الحرب في سورية، والبلد الذي لم يطرح على نفسه مهمة الوقوف في وجه قرار الحزب القتال هناك يجب أن يتحمل تبعات هذا القرار.
لكن، وبعد كلام الأسد الأخير، أصبحنا أمام حقيقة مختلفة. فلا عودة للاجئين إلى بلدهم. من الواضح أن هذا قرار قد اتخذ، ووفق هذا القرار فإن «حزب الله» سيوظف «الضغينة الاستقلالية» في مهمة جديدة، وهي العمل على مشروع تصدير اللاجئين إلى مناطق أبعد، وهذه من المهمات التي لا يرى الحزب أنها مستحيلة في ظل ما تشهده المنطقة من عمليات ترانسفير هائلة.
أما أن يوكل الحزب هذه المهمة إلى قوة سياسية وأهلية مسيحية، ففي ذلك لعب بمصير هذه الجماعة. ذاك أن الضغائن التي يمكن أن تولدها خطوة من هذا النوع، قد تتحملها أقليات كبيرة تساوم في نهاية المطاف على حصصها في الخرائط التي تُرسم للمنطقة، أما الأقليات الصغرى وغير المستقرة فاحتمال تحولها كبش فداء في صفقات الخرائط لن يحد منه غياب الفطنة لدى قادتها.
المهمة أكبر من قدرة المسيحيين على تأديتها، ونجاحهم في تحقيقها سينطوي على فشل أكبر، واستئناف العهد اللبناني الجديد لغة كراهية في حق اللاجئين سيكون مؤشراً إلى نهايات مأسوية.