عروبة الإخباري- يُعدّ تحرير الموصل أقرب ما يكون إلى أمر واقع في الحرب. فقد يتراوح عدد عناصر تنظيم («داعش») بين 2000 و 3000 مقاتل للدفاع عن مدينة تصل مساحتها إلى 12 ميلاً مربعاً، بينما تواجه هذه العناصر مقاتلين من قوات الأمن العراقية و”البيشمركة” الكردية التي يناهز عددها 54 ألف شخص.
بإمكان المرء أن يتصوّر بسهولة السيناريوهات المرعبة التي قد تنشأ خلال المعركة. فهناك بعض الأسئلة التي قد تطرح نفسها هنا وهي: ماذا لو فرّ مليون شخص من المدينة؟ ماذا لو فجّر تنظيم داعش جميع الجسور الممتدة فوق نهر دجلة وخرّب أنظمة الكهرباء والمياه، مسبّباً أزمة إنسانية؟ ماذا لو أدت أعمال العنف إلى إفساد التواصل الأول بين قوات الأمن المشاركة في تحرير الموصل و”مقاتلي المقاومة” المحليين المناهضين لـ تنظيم «داعش»، الذين ربما كانوا أنفسهم يقاتلون الحكومة قبل عام 2014؟ ماذا لو اندلعت اشتباكات بين قوات “الجيش العراقي” من جهة والقوات التركية أو الكردية التي تحاول دخول المدينة من جهة أخرى؟ وماذا عن الخطر الذي تشكّله «وحدات الحشد الشعبي» المدعومة من إيران، بإقحامها نفسها في القتال في المناطق الحضرية وقيامها بهدم بلدة مجاورة كتل عفر، التي تُعتبر موطن العديد من قادة تنظيم «الدولة الإسلامية» وشريحة سكانية كبيرة من التركمان السنّة؟
لا بدّ من أخذ هذه المخاطر على محمل الجدّ – ليس لديّ شك في أن المخططين العسكريين المشاركين في العملية يدركون تماماً ماهية هذه التعقيدات. ولكن شعوري هو أن معظمها لن يتطوّر بالحدة نفسها التي يخشاها المراقبون. هناك فرصة جيدة بأن يحقّق التحرير الفعلي للمدينة نجاحاً باهراً: فمعظم سكان الموصل سيحتمون في منازلهم، إذ تمّ تشجيعهم على البقاء حيث هم لأن أنحاء كثيرة من هذه المدينة الكبيرة لن تتأثّر بشكل مباشر بعمليات القتال، بينما ليس لدى تنظيم «الدولة الإسلامية» ما يكفي من المقاتلين للدفاع عن أكثر من بضعة أحياء.
وسيقوم العراق بالتعاون مع قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة بتنفيذ العمليات الخاصة كما ستساهم القوة الجوية في منع التدمير الشامل للبنية التحتية الأساسية، كما ستَستخدم الحكومة العراقية المعدّات المزوّدة من الولايات المتحدة لاستبدال الجسور التي تتعرض للتخريب. وقد بذلت بغداد وحلفاؤها الدوليون أيضاً جهوداً حثيثة لإبقاء قوات “البيشمركة” و«وحدات الحشد الشعبي» الشيعية بعيداً عن المعركة الحضرية لتحرير الموصل – حيث أخذوا العبرة من المرحلة التي أعقبت احتلال المدينة في عام 2003 حين قوبل وجود قوات الأمن الكردية والشيعية في المدينة الذي فرضه الجيش الأمريكي، برفض عنيف من قبل الأغلبية العربية السنّية.
وهناك الآن فرصة غير مسبوقة للعمل يداً بيد مع سكان الموصل على إرساء الاستقرار في مدينتهم. فحين سقط صدام حسين، ثار السكان في أعقاب غزو الولايات المتحدة للمدينة وقيامها بإزالة كافة آثار الحياة القديمة الدالة على حكم “حزب البعث”. ولكن هذه المرة، تقاتل القوات التي يقودها الجيش العراقي من أجل القضاء على دكتاتورية من القرون الوسطى أرهبت الموصل خلال العامين والنصف الماضيين. وبالتالي، ومع وضع الترتيبات الملائمة، سيرحّب سكان الموصل بعناصر قوات الأمن العراقية كمحررين وذلك للمرة الأولى.
من ناحية أخرى، يبدو واقع تحرير الموصل أكثر تفاؤلاً مما يريدكم المشكّكون والمتشائمون أن تعتقدونه. فمنذ ربيع عام 2015، اتخذ “الجيش العراقي”، و”جهاز مكافحة الإرهاب”، و”الشرطة الاتحادية” زمام المبادرة لتحرير كل من تكريت وبيجي والرمادي وهيت والفلوجة والقيارة. وكانت هذه الانتصارات ممزوجة بالكامل تقريباً بدماء العراقيين والأكراد – بيد أن التحالف الدولي لعب دوراً رئيسياً في كل نصر بفضل حملاته الجوية والجهود التي بذلها في تدريب القوات العراقية وتجهيزها.
وقد بلغت هذه الجهود الدولية ذروتها في المعركة لتحرير الموصل. فحالياً تحلّق في سماء المدينة أسراب من الطائرات القتالية الأمريكية وتلك التابعة للتحالف، إلى جانب طائرات الاستطلاع بدون طيار، فضلاً عن منصات للتزوّد بالوقود. أما كامل القوة الاستخباراتية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة فتتركّز على الموصل كالليزر، حيث تمنح العراق القدرة على الوصول إلى المدينة وقتل قادة تنظيم «الدولة الإسلامية» وكشف دفاعاتهم في الوقت الفعلي. كما أن الطائرات الأمريكية تنقل المواد الغذائية والوقود والذخيرة مباشرةً إلى ساحة المعارك. ومن جهتها، تقوم المدفعية الأمريكية والفرنسية على الأرض بقصف مواقع التنظيم وصولاً إلى أطراف المدينة. أما قوات التحالف الخاصة فتعمل في الأماكن التي يمكننا رؤية هذه القوات – على الخطوط الأمامية، حيث تحدّد الأهداف وتقدّم المشورة للقادة العراقيين – وفي الأماكن التي لا يمكننا رؤيتها، في الموصل حيث تعمل على تنظيم صفوف المقاومة وأداء مهمات خاصة. وفي المقرات العراقية كقاعدة “غرب القيارة” الجوية، تُعتبر فرق الاستشارة التابعة للتحالف كالصمغ الذي يُبقي العمليات العراقية – الكردية المشتركة متماسكة ويُقلل من الخسائر في الأرواح بين صفوف العراقيين.
لكن مركزية التحالف في نجاح الحملة العسكرية العراقية هي سيف ذو حدين. [على سبيل المثال]، ما الذي سيحدث لو تلاشى دعم التحالف بعد تحرير الموصل؟ لقد تمّ دحر النسخة السابقة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق بين عاميْ 2007 و2010، واقتلاع التنظيم من جذوره بفضل مزيج قوي من العمليات الخاصة بقيادة الولايات المتحدة، وإجراءات مكافحة التمرّد الأمريكية – العراقية الذكية، والانتفاضات التي أطلقها العديد من المسلحين السنّة. لكن تنظيم «داعش» تعافى بين عاميْ 2010 و2014 وعاد أقوى من أي وقت مضى، ليجتاح ثلث البلاد بعد عامين ونصف فقط من مغادرة القوات الأمريكية. غير أن الخطر الحقيقي الذي يلوح في الأفق يتمثّل بإمكانية تكرار هذا السيناريو مرة أخرى، مما يجعل نجاح عملية تحرير الموصل الذي سيتحقق بشقّ الأنفس مجرّد انفراج مؤقت.
وتمثّل محافظة ديالى الواقعة شمال شرق العاصمة بغداد صورة عن مستقبل محتمل للعراق. فالميليشيا الشيعية “منظمة بدر” التي تدعمها إيران تهيمن على الأغلبية السنّية في هذه المحافظة، وتدير الحكومة وقوات الأمن المحلية. ولم يتمكّن التحالف بقيادة الولايات المتحدة من تنفيذ أي عمليات في المحافظة لأن الميليشيات المدعومة من إيران رفضت الدعم الجوي الأمريكي، ويخشى التحالف من ردّ فعل المنظمة إذا أقدمت مقاتلاته على تنفيذ أي ضربة جوية خاطئة. وقد استفاد تنظيم «الدولة الإسلامية» بالفعل من العداوات الطائفية التي تفاقمت من جرّاء هيمنة “منظمة بدر” على ديالى، فعاد إلى المحافظة ليشنّ عملية تمرد عنيفة تهدّد باجتياح القرى الريفية وتوفير قاعدة انطلاق لشنّ هجمات استفزازية لإحداث إصابات جماعية في صفوف المدنيين الشيعة.
والآن، تحتاج الولايات المتحدة إلى البدء بوضع خطط لمنع مناطق أخرى من العراق من مواجهة نفس مصير ديالى. والخطوة الأولى في إطار تطوير صيغة مختلفة لإرساء الاستقرار بعد انتهاء الصراع تتمثّل بتمديد فترة “قوة المهام المشتركة – »عملية الحل المتأصل«” بقيادة الولايات المتحدة لعدة سنوات، وذلك بالاتفاق مع الحكومة العراقية. وسيكون هدف ذلك إقامة علاقة تعاون أمني طويلة الأمد من شأنها تأمين التغطية للحكومة العراقية الحالية وخليفتها، عبر وضع هذه الشراكة المفيدة تحت كنف رئيس الوزراء العراقي الواقعي الحالي حيدر العبادي. وتندرج هذه الخطوة أيضاً ضمن مهمة “قوة المهام المشتركة – »عملية الحل المتأصل«”، التي تتمثل بإضعاف تنظيم «الدولة الإسلامية» لكي تتمكن القوات العراقية من التصدّي له بسهولة. ومن الواضح أنه لم يتمّ التوصل حتى الآن إلى هذا الهدف في ديالى، ولن يتم التوصل إلى ذلك أيضاً في المناطق الحدودية النائية من البلاد ولا على طول خط المواجهة في «إقليم كردستان العراق»، حيث يستغلّ التنظيم التوترات بين العرب والأكراد.
إن إطالة أمد “قوة المهام المشتركة – »عملية الحل المتأصل«” سيعود بالعديد من الفوائد. وأحد النجاحات المبهرة التي حقّقتها قوة المهام يتمثل بتدويل غير مسبوق للتعاون الأمني مع العراق. فبين عاميْ 2003 و2011، لم يكن التحالف أكثر من مجرد منصة للتعاون الأمريكي البريطاني – أما اليوم، فإن معظم الشركاء في حلف شمال الأطلسي والعديد من دول “مجموعة العشرين” يعملون معاً تحت قيادة الولايات المتحدة في العراق. ويُعدّ هذا التنوّع مفيداً إلى حدّ كبير، إذ يجلب قدرات لا تمتلكها الولايات المتحدة، مثل مهمة التدريب التي تولاها رجال الشرطة الإيطالية بالاشتراك مع “الشرطة الاتحادية”، كما يمنح العلاقة بين الحكومة العراقية وقوة المهام استقراراً دبلوماسياً أكبر. ولا بدّ من المحافظة على طابع تدويل “قوة المهام المشتركة – »عملية الحل المتأصل«” وحتى توسيع نطاقه خلال السنوات المقبلة.
وفي الوقت الذي يتحوّل فيه القتال ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» من تحرير المدن العراقية إلى إرساء الاستقرار على المدى الطويل، لا بدّ للجهود الدولية المبذولة من التكيّف مع ذلك أيضاً. وسينتقل التدخّل الأجنبي في العمليات القتالية الرئيسية إلى مدينة الرقة السورية، التي أعلنها التنظيم عاصمة له من جانب واحد. وستتركّز العلاقة الأمنية مع العراق إلى حدّ كبير على تبادل المعلومات الاستخباراتية، فضلاً عن التدريب والتجهيز وتقديم الاستشارة ومساعدة قوات الأمن. ويتعيّن على “قوة المهام المشتركة – »عملية الحل المتأصل«” تطوير برنامج تدريب وتجهيز يمتدّ على عدّة سنوات ويركّز على تدريب القوات الخاصة والاستخباراتية على عمليات مكافحة الإرهاب. وقد تؤسس قوة المهام “مركزاً متميزاً لمكافحة التمرد” مخصصاً لـ “الجيش العراقي” و”الشرطة الاتحادية”، وقد يتمكّن المدربون الدوليون أيضاً من إعادة إحياء أكاديمية الشرطة العراقية التي كان مقرها في الموصل حتى عام 2014. ويمكن للشركاء الدوليين مساعدة العراق على تطوير القدرات اللوجستية وتلك الخاصة بأمن الحدود من أجل دعم العمليات في الأماكن غير الخاضعة لأي سيطرة والبعيدة عن البنية التحتية القائمة. ومن دون توافر أمن الحدود، قد تتسلّل من جديد حالة عدم الاستقرار المستمر في سوريا إلى الموصل ومناطق أخرى من شمال العراق.
يتعيّن على الولايات المتحدة أيضاً توفير حماية أفضل لأصدقائها في العراق. وفي غياب مثل هذه الضمانة بشأن استمرار دعم التحالف على المدى الطويل، قد يستسلم حلفاء الغرب مثل رئيس الوزراء العبادي، و”مركز مكافحة الإرهاب”، و”الجيش العراقي”، وأكراد العراق، ومقاتلي العشائر السنّية في وجه الضغوط والتهديدات التي تمارسها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران خلال السنوات القادمة. كما أن التركيز الدولي المستمر قد يساهم في مراقبة التعاون الأمني وتحسينه بين بغداد و«إقليم كردستان العراق» على طول حدودهما المتنازع عليها.
وتبدو الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون في العراق أشبه بشخص دفع بصخرة ضخمة مرة أخرى صعوداً على تل منحدر ويقترب من بلوغ القمة. فهل يُعتبر التوقف عن الدفع في مثل هذا الوقت آمناً وهل يكفي أن نأمل في أن يتمكن الزخم من إيصال الصخرة إلى القمة؟ أم أن الصخرة ستتوقّف ومن ثمّ تعود ببطء إلى الوراء بشكل مخيف نحو الولايات المتحدة وشركائها؟
وتدرك واشنطن تماماً كيف تبلورت الأمور في عام 2011: فقد توقّفت عن الدفع، وبعد 30 شهراً تقريباً استولى تنظيم «الدولة الإسلامية» على ثلث العراق. وتمثّل خطأ الولايات المتحدة بانسحابها السريع والكامل من البلاد، مما وفّر الظروف المثلى لاستعادة نشاط تنظيم «داعش» بشكل قوي. يجب على واشنطن أن تتمتع هذه المرة ببعد نظر أكبر. ومن أجل تحويل حلم الانتصار القادم في الموصل إلى إنجاز دائم، يتعيّن على المجتمع الدولي ألا ينسحب من المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد تحرير الموصل.
*مايكل نايتس هو زميل “ليفر” في معهد واشنطن، وكان قد عمل في جميع محافظات العراق وأمضى بعض الوقت ملحقاً بقوات الأمن في البلاد.(معهد واشنطن)