تؤكد توقعات البنك الدولي أن معدل النمو الإقتصادي الأردني خلال العام القادم سيكون في حدود 2.6% ، و هي نسبة متواضعة للغاية إذا أخذنا بعين الإعتبار معدل النمو السكاني،و تأثير اللجوء و العمالة الوافدة.و حين تتكرر هذه المعدلات المنخفضة عاما بعد عام فإن الإقتصاد و البطالة و الفقر تدخل كلها في مأزق يصعب الخروج منه . الأمر الذي يتطلب برامج وطنية محكمة تهدف إلى تعزيز القدرات الإنتاجية،ومساعدة الشركات المتعثرة،و إنتاج سلع جديدة، و رفع كفاءة الإنتاج في القطاعات المختلفة .
وعلى الرغم من تكرار تبيان أهمية الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة من خلال تصنيع الاقتصاد الوطني،كما فعلت جميع الدول التي نهضت ، والانتقال به من الاستيراد المفرط الى الانتاج المتقدم للسلع والخدمات، فإن الخطوات الجادة التي تتخذها الحكومات المتعاقبة في هذا الاتجاه لا تزال مترددة و متعثرة أو غائبة. وعبارة التصنيع هذه تشمل في مضمونها الارتقاء الانتاجي والتكنولوجي في جميع القطاعات، سلعية كانت أم خدمية. وبالنسبة للزراعة على وجه الخصوص فإنها تعني تصنيع مدخلات الانتاج الزراعية النباتية والحيوانية اضافة الى تصنيع المنتجات النهائية ذاتها، و التوسع، بالتعاون مع الجامعات و مراكز الأبحاث، في مدخلات العلم و التكنولوجيا في مختلف الأبواب الزراعية ،كبيرة كانت أم صغيرة.
ان الدور الوطني الذي يلعبه قطاع الزراعة رغم تواضع مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي من (4% الى 5%) دور بالغ الاهمية. والزراعة الناجحة الواسعة الانتشار هي جزء من الأمن الوطني والمجتمعي ،و أداة للمحافظة على التوزع السكاني والعمراني المناسب. وليس هناك من دولة صغيرة أو كبيرة في الدول الصناعية كالولايات المتحدة أو المانيا أو الدنمارك أو هولندا أو سويسرا إلا وتحتل الزراعة فيها أهمية رئيسية ،ابتداء من تقديم الدعم المالي المباشر للمزارعين ،وانتهاء بتسخير أحدث منتجات العلم والتكنولوجيا والهندسة لتطوير الزراعة والوصول بها الى ارقام قياسية. ولعل الدنمارك واحدة من الأمثلة البارزة في العالم حيث يصل انتاج الفرد من الزراعة 2100 دولار سنويا مقابل 180 دولار/للفرد في الاردن. ان جزء كبيراً من الفرق بين انتاج الفرد في الدنمارك وانتاج الفرد في الاردن لا يعود الى الكميات أو المساحات وانما يعود الى التصنيع والتكنولوجيا و الإنتاجية العالية و نوعية الأصول و السلالات.
غير ان ما نشهده من تراجع في القطاع الزراعي لدينا يثير القلق بسبب ما أدى اليه ذلك من تهميش الارياف ،والهجرة من الريف الى المدينة. وعلى فترات متقطعة يتم تهشيم الزراعة فصلا فصلا . و غالبا ما ينظر الرسميون إلى الفصول أو الفروع الزراعية باستهانة و استصغار .. هل تنشغل الحكومة بالدواجن؟ أو تنشغل بالبقوليات؟ أو الفاكهة ؟ و يتناسى هؤلاء أن هذه المفردات هي جزء اساسي من حياة المواطنين اليومية.
و في هذه الفترة نشهد تهشيم قطاع انتاج الدواجن لدرجة ان الكثير من المزارع الصغيرة و المتوسطة توقفت أو في طريقها إلى الإغلاق. يعود ذلك بالدرجة الاولى الى فتح باب الاستيراد للدواجن المجمدة التي تأتي مدعومة دعما مباشرا وغير مباشر من الارجنتين والبرازيل و اوكرانيا وحتى نيوزلندا. لقد كان الاردن في اواسط التسعينات مصدراً للدواجن، واليوم اصبح مستوردا بشكل ملفت للنظر. هذا اضافة الى الارتفاع المتواصل في كلفة الانتاج نظرا للارتفاع المتواصل في اسعار مدخلات الانتاج. وما ينطبق على الدواجن ينطبق على الكثير من المنتجات الزراعية من حبوب و بقوليات و فاكهة , و التي أصبحت معظمها مستوردة و أعلى كلفة من قدرة المواطن على التحمل. صحيح ان المياه شحيحة، ولكن شح المياه ليس هو السبب الوحيد، وليس هو حائط لا يمكن اختراقه.و هناك الكثير من المنتجات البسيطة كالبصل و الثوم مثلا يجري استيرادها بملايين الدنانير سنويا لضآلة الإنتاج المحلي و بدائية التكنولوجيا المستخدمة و ارتفاع الأسعار.هل يعقل أن الأردن و لديه أكثر من مليون جامعي و 27 جامعة لا يستطيع أن ينتج الثوم ،و ليس الطائرات،كما تنتجه و تغلفه و تصدره الصين؟ هل يعقل أن المزارع، يوما يطرح إنتاجه على الأرض و في الشوارع لأنه عاجز عن تصريفه،و يوما آخر تلتهب الأسعارفلا يستطيع المستهلك الشراء ؟
المشكلة الكبرى ان الدولة تركت المزارع يقاتل وحده، وتخلت عن الزراعة ،على افتراض خاطئ وهو ان القطاع الخاص والمزارع ،الذي ينوء بكل الاعباء التي يحملها ، عليه ان يفعل كل شيء. اين الدعم الذي يقدم للمزارع؟ اين الدعم العلمي والتكنولوجي الذي تقدمه مراكز الابحاث والجامعات للمزارع مباشرة و ليس لغايات نشر الأوراق العلمية؟ أين الشراكات مع الإتحادات الزراعية و الجمعيات المتخصصة؟ و أين دور الإرشاد الزراعي في تغيير الأنماط والأساليب و الأشتال والسلالات؟ وأين تصنيع المنتجات واستخدام الطاقة المتجددة؟ أين دخول الشباب و المستثمرون الجدد إلى قطاع الزراعة؟
حتى في موضوع المياه.. حيث لا اهتمام ابداً بتطوير واستخدام التكنولوجيات المساعدة التي تستخدمها دول كثيرة . لقد ذكرنا اكثر من مرة ضرورة الدخول في تكنولوجيات المياه الإضافية المساعدة مثل الاستمطار. ذلك ان هذا النوع من المطر من شأنه ان يحسن من انتاج المحاصيل الزراعية. وقد تم اجراء تجربة واحدة العام الماضي ثم توقفت بدلا من انشاء مركز متخصص لهذه الغاية.بل إن المحطة النووية التي هناك إصرارعليها دون مبرر،سوف تحرم الزراعة من أكثر من 50 مليون مترا مكعبا سنويا. وهناك أيضا توليد المياه من رطوبة الهواء باستخدام الطاقة الشمسية، اضافة الى صناديق المياه وغيرها من التكنولوجيات المساعدة التي تبدو في ظاهرها بسيطة ولكن تراكمها يحدث فروقا كبيرة. بمعنى ان وسائل التغلب على شح المياه موجودة علميا و تكنولوجيا،ولكن الدولة لا تتقدم بهذا الاتجاه وكأن تراجع الزراعة وارتفاع اسعار المنتجات الزراعية فوق طاقة المستهلك لا يعنيها ابداً.
ماذا تنتظر الدولة؟ ان الامن الغذائي هو جزء لا يتجزأ من الأمن المجتمعي وأمن المستقبل وحين يصبح اكثر من 85% من غذائنا مستوردا وتتحكم بأسعاره الاسواق العالمية، فالمسألة بالغة الخطورة.