هزيمة سهلة لـ «داعش» في الموصل… والعالم بصدد حماقة جديدة/ حازم الأمين

يبدو أن «العالم» على وشك السقوط في وهم جديد اسمه «القضاء على داعش». التحضيرات الجارية للهجوم عليه في الموصل تدفع إلى الذهول جراء ميل العالم كله إلى الاعتقاد بأن نصراً عسكرياً على هذا التنظيم المسخ سيحقق شيئاً! وكأن «داعش» انبثق من نصر عسكري حققه، أو تدفق على الناس والمدن والعشائر والقوميات الصغرى والكبرى، فقط لأنه أقوى عسكرياً ممن وقف في وجهه!

ثمة إجماعات على أسباب صعود «داعش»، ويبدو أن الجميع اليوم يهرب منها، خصوصاً أن أياً من هذه الأسباب لم يُعالَج. واليوم يُعد العالم كله العدة لاستئناف الحماقة. والأرجح أن «داعش» لن يقاتل في الموصل. وهو لم يسبق أن قاتل في الفلوجة ولا في تكريت ولا الرمادي. ذاب التنظيم في الصحراء وصار جزءاً من رمالها فور تقدم القوات باتجاه هذه المدن. السكان تحولوا لاجئين أبديين، والعشائر كيفت نفسها مع الوضع الجديد، وها هم مقاتلو التنظيم نائمون في جحورهم في صحراء الأنبار منتظرين انبثاقاً جديداً لمعادلة دموية تعيدهم إلى صلب المشهد.

العراق يُكرر هذه المعادلة منذ سقوط نظامه البعثي، والدرس لم يتعلمه أحد. حل الأميركيون الجيش وحُظر حزب البعث، فانبثقت من ذلك «قاعدة الزرقاوي». ابتُكرت «الصحوات» بعد جولات دموية مع التنظيم الارهابي وبدا ذلك علاجاً ناجعاً للمعضلة، فأطل نوري المالكي ليطعن هذه «الصحوات»، فعادت «القاعدة» من الصحراء إلى المدن مجدداً. عالج الأميركيون هذا الداء بالغارات وبقتل أمراء التنظيم واحداً تلو الآخر، فأفرجت الحكومة عن مجموعة «سجن بوكة» وتولى هؤلاء إطلاق «داعش» وتحويله لاحقاً إلى «خلافة» تمتد إلى سورية. جرى كل ذلك في سياق سياسي واضح ومحدد لم يُعالج قيد أنملة.

العالم ذاهب إلى الموصل حاملاً معه اضطراباً سنياً شيعياً يشطر الشرق كله. وستقاتل هناك وحدات تحمل هموماً شديدة التعارض. وهي ستدخل المدينة محملة بفتيل انفجار كبير. ففي الموصل ستُختبر في لحظة الهجوم كل أنواع النزاعات، ولعل أقلها أهمية سيكون القضاء على «داعش»، ذاك أن التنظيم سيمضي إلى الصحراء، تاركاً وراءه الاحتمالات الدموية.

العالم لم يسأل نفسه إلى أين غادر مقاتلو التنظيم الذين انهزموا في الفلوجة والرمادي وتكريت! فقط هو ذاهب لقتال «داعش» في الموصل، والأخير نائم في الصحراء، والأرض في عرفه ليست هي المعركة. التنظيم هيأ نفسه وجمهوره لحقيقة أن الهزيمة ليست في خسارة الأرض.

قد يكون توقّع مصير أسود للموصل بعد هزم «داعش» استباقاً لاحتمالات أن يجد العقل مكاناً له في حفلة الدماء هذه، لكن السؤال الأهم هو: هل يعني الدخول إلى الموصل بداية القضاء على «داعش»؟

عملياً، يبدو أن طريق انسحاب للمقاتلين سيبقى مفتوحاً، تسهيلاًَ لمجريات المعركة، ما يعني، وفق خبراء الحروب في الصحراء، أن ثلاثة مصائر ستواجه شرائح التنظيم المبثوثة في المدينة:

– الشريحة الأهلية والعشائرية لمجتمع «داعش» ولمقاتليه، وهؤلاء يُرجّح أن يحاولوا التحول إلى مدنيين ويستفيدوا من حمايات عشائرية ومناطقية تساعدهم على البقاء. بعضهم، ووفق جيران لهم، غابوا لأيام تسللوا خلالها إلى تركيا وعادوا بعدما أجريت لهم عمليات تجميل غيرت ملامحهم.

– الشريحة الثانية سيختبئ أفرادها في مناطق الجزيرة بين سورية والعراق وفي المساحات الصحراوية الهائلة وغير المغطاة عسكرياً وأمنياً، بانتظار ظروف تساعدهم على استئناف حضورهم في أي منطقة تتيح فيها الظروف السياسية والعسكرية تجديد نفوذهم. ومعظم هؤلاء من القيادات والعناصر التي التحقت بـ «داعش» قادمة من تجارب في الجيش العراقي السابق أو من حزب البعث.

– الشريحة الثالثة ومعظمها من المقاتلين غير العراقيين ويبلغ عددهم آلافاً، سيغادر أفرادها إلى سورية عبر المعابر التي ما زال «داعش» يُمسك بها، أو التي سيتعمد المهاجمون إبقاءها مفتوحة تسهيلاً للمهمة. وفي حالة هؤلاء سيكون العالم أمام مهزلة تتمثل بدفعه للفاجعة من مدينة عراقية إلى أخرى سورية، ما سيضاعف تعقيد الوضع في سورية، على أن يبقيه مجهولاً في العراق.

إذا وضع المرء أمامه هذه الحقائق، وفي مقابلها حقيقة أن السياق السياسي والأمني الذي صعد «داعش» في ظله ما زال مستمراً، لا بل أن تزخيماً له يجري على كل المستويات، خرج بنتيجة مفادها أن النصر في الموصل لن يكون سوى محطة لانتاج مزيد من الشروط التي تبقي «داعش» على قيد الحياة.

التنظيم الذي سيغيب في الصحراء سيعاود انقضاضه على مدن جديدة فور توافر الشروط، وما أكثر هذه الشروط. العراق يعيش على وقع انتصارات مذهب على آخر، وسورية يستمر البعث فيها بمهمته المتمثلة بقتل الناس من دون حسيب ولا رقيب، وتركيا مستعدة لمبادلة أي انتصار لخصوم «داعش» بمدينة كان الأكراد يسيطرون عليها. وإيران مستعدة لتسليم المدن مجدداً للتنظيم الارهابي كما فعلت في الموصل، فقط لتثبت للعالم أن خصومها إرهابيون، ولتدفع السنّة إلى مزيد من الراديكالية التي توازي راديكاليتها.

ما الذي تغير في كل هذه الشروط حتى يعول المرء على نصر في الموصل وآخر في الرمادي، وربما لاحقاً في الرقة؟ ما المنطق الذي يمكن أن نفسر بموجبه هزم «داعش» في مدينة الرقة؟ ومن سيستثمر في هذا الانتصار؟

لا يكفي إطلاقاً أن تكون لدى الغرب رغبة في إلحاق هزيمة بالتنظيم، ولا يكفي أن تكون الحكومة العراقية مندفعة نحو هذا النصر الوهمي حتى يتحقق.

معركة الموصل ستكون لحظة وئام غير حقيقية بين قوى مراوغة سيغدر بعضها ببعض فور انتهاء المهمة. وربما لن تكون الموصل مسرح هذا الغدر المتبادل، انما مدن أخرى في العراق وسورية لم يسبق لها أن اختبرت «داعش». وهذا التوقع لا يستبعد القضاء على التنظيم كبنية وقيادة، لكن ذلك لا يلغي احتمالات شديدة الواقعية لولادة مسخ جديد يمثل مرحلة «ما بعد داعش». فالقضاء على البعث أنتج «قاعدة الجهاد في العراق»، والقضاء على الأخيرة أنتج «داعش»، وهذا السياق من التوالد لن يوقفه قرار بالقضاء على التنظيم في الموصل أو الرقة، على رغم أهمية الخطوة. والتحضير لمعركة الموصل اليوم يؤشر إلى أننا ما زلنا أمام هذا المصير البائس.

Related posts

قمة الرياض… قمة فاصلة، فهل تنجح وكيف؟

قمة الرياض وتحولات جيواستراتيجة* الدكتور أحمد الشناق

لا نريد كلاما* ماهر أبو طير