1-القضية الأولى
في الاستطلاع الذي نفذه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بمناسبة مرور 100 يوم على حكومة الدكتور هاني الملقي،تبين أن هناك اتفاق لدى أغلبية الأردنيين ،سواء كانوا من الناس العاديين(العينة الوطنية) أو من قادة الرأي، ان المسألة الاقتصادية الاجتماعية هي الأكثر حساسية و إثارة للقلق و تتطلب من الحكومة جهوداً إستثنائية خاصة لمواجهتها. فقد احتلت كل من “البطالة والفقر والوضع الاقتصادي الحرج و غلاء المعيشة”، المكانة الاعلى باهتمام المواطنين و بنسبة 78% لدى العينة الوطنية واحتلت ذات الحزمة نسبة 81% لدى قادة الرأي. واذا أضفنا الى المفردات السابقة مفردتي الفساد و العمالة الوافدة، فإن درجة الأهمية ترتفع فيها النسبة الى 90% للعينة الوطنية و89% لقادة الرأي. وهذا يعني ان القضية الوطنية الأولى في نظر المجتمع بمختلف مكوناته هي اقتصادية اجتماعية بمفرداتها الصريحة أي الوضع الإقتصادي و الفقر والبطالة و الفساد، وليست المسائل الفرعية التي كثيرا ما ترى الحكومات المتعاقبة الانشغال والتشاغل بها، من مثل الدعوة الى انشاء بورصة جديدة، أوخفض الضريبة هنا ورفعها هناك،أو تحويل سوق الأوراق المالية الى شركة مساهمة ،تتحول عائداتها للمالكين الجدد ولإعضاء مجلس الادارة، بدلاً من أن تكون للدولة، على الرغم من أنها مؤسسة حكومية ناجحة وسليمة.
هل يمكن للحكومة ان تنظر لهذه المسألة، ولمسائل اخرى، من مدخل العقل والفكر الذي اشار اليه الملك عبدالله الثاني في خطابه الهام في الامم المتحدة؟ ان العقل والعلم و الفكر السليم يقول:” أن الأنشغال بصناعة المال والعقار و الأسواق الثانوية، في ظل إقتصاد ضعيف النمو ،ضئيل الإنتاج ،ما هو إلا تدوير للأموال بين المتعاملين، ولكنه لا يضيف الى الاقتصاد شيئاً يذكر و لا يخفف من حالة الفقر و لا يخفض البطالة”. اليس أكثر اهمية من انشاء بورصة جديدة هو”انشاء بنك للإنماء الصناعي ” كشركة مساهمة تشارك فيها الحكومة و العمل على مساعدة الشركات و الصناعات المتعثرة مثلاً ؟أوإنشاء سلسلة من المشاريع الإنتاجية الجديدة المنبثقة عن صناعات كبيرة ؟ أو معالجة أزمة شركتي الفوسفات و الملكية الأردنية اللتا تعانيان من الخسارة المستمرة بعد عشرات السنين من تشغيلهما ؟أو إنشاء مركزمتخصصً في كل محافظة لتأهيل الراغبين في البدء بمشاريع جديدة؟
2-التعليم العالي “والمقبول”
حقيقة ان فرط التدخل في شؤون التعليم العالي على مدى السنوات الماضية ،قد قيد التعليم و خلق مشكلات عديدة لا داعي لها، و حال دون التطوير و التنويع و التحديث السريع. فالتوجه لدى مجلس التعليم العالي “ان لا يقبل لدراسة الماجستير والدكتوراة من حصل على تقدير “مقبول” في البكالوريوس”. والعقل وراء هذا التوجه شبيه بالعقل خلف التوجيهي. فكلاهما يريد للإمتحان ان يكون نهاية المطاف لصاحبه. فمن حصل على تقدير “مقبول” في البكالوريوس لا يستطيع ان يتجاوز هذا الحاجز إلى الأعلى حتى لو جد و اجتهد. و هذا مخالف للحقوق الإنسانية والدستورية.صحيح أنه يمكن لكل جامعة ان تضع شروط القبول للدراسات العليا كما تراه متفقا مع مستواها و برامجها ، شأن الجامعات الأخرى في العالم. و إذا تم منع صاحب التقدير “مقبول” أن يلتحق بجامعة اردنية ،فهل سيجري منعه من الدراسة في جامعة بريطانية أو أمريكية أو ألمانية؟ و إذا التحق فهل ستمتنع الوزارة عن الإعتراف بشهادته ؟ العقل والفكر السليم يقول بالتأكيد لا .
آن لنا إن نطور مفاهيم الحاكمية لنصل إلى المستوى الجيد منها .فالمؤسسة الرسمية هنا ينبغي أن تنحصر واجباتها ومهامها بالتأكيد على نوعية التعليم و جودته و مستواه،و أن الجامعة ذات العلاقة تقوم بالدور المطلوب حسب الأعراف الدولية دون تساهل أو محاباة.
وإذا كانت الحكومة تخشى من كثرة حملة الشهادات العليا، فيمكنها اعلان سياسة مسبقة قوامها “فك الإرتباط بين الشهادة و التوظيف الإجباري، و أن الراتب هو للموقع الوظيفي و ليس للشهادة، و أن الإرتقاء إلى موقع أعلى يتم من خلال دورات و تأهيلات كما هو في الجيش”. و في هذا الإطار،لا يمنع الراغبون في التعليم أن يتعلموا على مسؤوليتهم، و بكامل حريتهم و اختيارهم. و من جانب آخر يمكن للحكومة أن تطلب من الجامعات الاهتمام بمواضيع ومجالات معينة تحتاجها الدولة في القطاعات الإقتصادية و الإجتماعية المختلفة، وتنصحها بعدم التركيز على مواضيع اخرى. بمعنى ان اجراءت الحكومة فيما يخص التعليم العالي ينبغي ان تخرج من دائرة “الأمر والنهي والمنع والسماح والنعم واللا” الى دائرة التعاون المشترك لتحقيق اهداف وطنية لها دوراً اقتصادي اجتماعي علمي ثقافي.
3- رؤوف أبو جابر و آخرون
لدينا بكل فخر و محبة شخصيات وطنية متميزة تستحق كل التقدير لأنها تخدم وطنها بهدوء و صمت و تقدم للمجتمع بكل سخاء.نذكر اليوم رؤوف ابو جابر. فهو مفكر و مثقف و ناشط إجتماعي و رجل أعمال من الطراز الأول .ولكن نجاحه المتميز لم يمنعه من أن يتابع تعليمه العالي في عمر متأخر نسبياً، للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة اوكسفورد. ليتابع بعد ذلك نشاطه المرموق في الدراسة والكتابة والتأليف. اضافة الى ذلك فإن ثروته التي حققها من أعماله ونجاحاته لم يحتكرها لنفسه ولعائلته بل ساهم في الكثير من المشروعات الخيرية وكان آخر مساهماته “بمبلغ مليون دينار” تبرع بها هو وزوجته لانشاء “مركز متخصص لدراسات المرأة” في الجامعة الأردنية. هذا النموذج الوطني الناجح في الأعمال وفي العلم و الثقافة وفي خدمة المجتمع هو الذي تحتاجه الأوطان دائماً وهو قليل في بلدنا ولكنه موجود رغم وجود الكثيرين ممن هم قادرون على ذلك . و نذكر هنا شخصيات من مثل عبد المجيد شومان وسمير شما و عادل الحجاوي و زهية منكو و محمد علي بدير و غيرهم، ممن ساهموا في بناء مؤسسات وطنية من أموالهم الخاصة. وبالأمس أعلن صاحب موقع فيس بوك وزوجته عن تبرعهما بـ (3) مليارات دولار على مدى (10) سنوات للابحاث العلمية الموجهة نحو القضاء على الامراض. تبرع شخصي تستفيد منه الأنسانية بكاملها.و الآن هل يمكن لوزارة الثقافة أو الجامعة الأردنية أو جامعة اليرموك أن تضع كتابا يؤرخ السيرة المتميزة لمن ساهموا في بناء مؤسسات وطنية كما فعل رؤوف ابو جابر و زوجته قبل أيام؟ فهؤلاء سخروا إمكاناتهم و بذلوا أموالهم من أجل بناء مستقبل الأردن. فأي مساهمة أجمل من ذلك ؟و خاصة عند توظيفها لبناء العقل و الفكر الوطني في المؤسسات العلمية و الثقافية والفكرية و الفنية ؟هكذا يكون حب الوطن و العمل من أجله.