جنى فواز الحسن في رواية طابق 99

عروبة الإخباري – د. إبراهيم خليل * – يقتحم الحبُّ حياتنا أحيانا مثلما يقتحم لصٌّ ظريف بيوتنا من غير استئذان. هذا هو الموقف الذي وجد فيه كل من (مجد) و(هيلدا) بطلا رواية طابق 99( ضفاف، ط2، 2015) لجنى فواز الحسن(من لبنان) فعندما جرت المذبحة المشهورة في مخيمي صبرا وشاتيلا(16 – أيلول 1982) كان مجد في الخامسة عشرة من عمره. ووالده كان أستاذ اللغة العربية في إحدى المدارس التابعة للأنروا، غير أنه تخلى عن تلك المهنة، وارتدى بزة الفدائي، وحمل سلاحا، وانخرط فيمن  انخرطوا في الحرب الأهلية اللبنانية. وحين بدأت المجزرة، حاول أن ينقذ ابنه مجد، وزوجته الحامل، إلا أن إصابة (مجد) بشظيتين؛ أولاهما في إحدى رجلية، والأخرى في صدغه، حال دون انقاذ الاثنين، فقد احتمل ابنه مجدًا، وسارع به إلى مستشفى غزة، في حين كان الموت- ذبْحًا- من نصيب الزوْجة. لا يتذكر الفتى (مجد) أنه عاد إلى المخيم مرة إلا وتداعت في ذهنه صوَرُ الجثث، والأشلاء المبعثرة، والمتناثرة، والأكياس السود التي توضع فيها الأشلاء، وتلملم، وتقذف في شاحنات لتدفن في مقابر جماعية. ويتذكر أن والده عزم على ترك لبنان بعد أن تخلى عن سلاحه، بحجة أن من يحارب على غير أرضه لا يمكنه أن ينتصر. وأن البقاء في لبنان رهانٌ على جواد خاسر.

قرر المغادرة إلى أميركا، لكنه في الوقت نفسه لن يتخلى عن فلسطين الهوية، والأرض، والحنين. فقد ظل يؤكد لابنه أن أمه لم  تمت وأنها(هناك) في الجليل، تنتظرهما ريثما يعودان إلى كفر ياسيف. أما في أميركا، فقد عمد إلى وضع ابنه في مدرسة هاملتون هيتس، في شارع هارلم في نيويورك. ويتدرب بعد ذلك على تصميم الألعاب الإلكترونية، ويعثر على وظيفة مستجيبًا لنصائح معلمه (فيليب) الذي يساعده للالتحاق بجامعة كولمبيا. ويغدو بعد سنوات قليلة رجل أعمال ناجحًا، يدير مكتبا فخمًا في طابق 99 في ناطحة سحاب في شارع ففث أفنيو. في هذا المكان يلتقي مصادفة بهيلدا ابنة العائلة المسيحية المارونية الأرثذوكسية، ذات الماضي والحاضر الكتائبي. فقد كانت قد ولدت في إحدى قرى(المتن) وألِفَتْ وهي صغيرة حياة القصور، والبَذخ، لكنها في موازاة ذلك شاهدت الكثير مما كان يثير رعبها، وشكوكها في ما يحيط بها من قيم. فوالدها، وعمها فريدي، وجورج، وأشقاؤها لا يفتأون ينظفون البنادق، ويحشونها بالطلقات استعداداً لجولات أخرى. ولا يفتأون يعقدون جلسات سرية، واجتماعات تستمر حتى الفجر بحضور مسلحين بأعدادٍ كبيرة. وعلى حين غرة تختفى شقيقتها الكبرى (متيلد) لأنَّ والدها المحافظ اكتشف أنها تتعاطى المخدرات، وعلى علاقة غير بريئة بأحد أفراد ميليشيا الكتائب (إدوارد).

ولهذا قام على عجل بإرسالها إلى مصحّ طبي للمُدْمنين. وعندما تساءلت هيلدا عن السبب الذي من أجله اختفتْ (متيلد) ولمَ أصبحتْ غرفتهما بسرير واحدٍ بدلا من  اثنين، أجابها بحزم: لا تكثري من الأسئلة. ومن ذلك الحين أصبحت هيلدا فتاة الأسرة المدلَّلة. عمها فريدي أيضا كان قد اختفى، اختفى هو أولا، ثم زوجته بعد وقت قصير من اختفائه. وعند سؤالها عنه قال لها الأب: إن فلسطينيين ثلاثة اختطفوه، وطلبوا فدية، لكنه تغلب عليهم وقتلهم جميعًا، ثم عاد إلى منزله نادمًا، ولم يتحمل أن يكون قاتلا فانتحر. في البدء اقتنعت الصغيرة بهذه الرواية، لكنها بعد سنوات اكتشفت الحقيقة التي أفضت إليها بها لوريس الخادمة. فالرواية التي سمعتها من الأب لا تعدو أن تكون أكذوبة لتسويغ انتحاره، والحقيقة أنه لم يتعرَّض لاختطاف، ولا ما يحزنون.

كان عنّينًا يعاني من ضعف جنسي، وعندما لم يستطع إشباع رغبات زوجته، طلبت منه الانفصال بالطلاق، فهدَّدها بالقتل، ويبدو أنّ المشادة بينهما جاءت بنتيجة عكسية، فالذي قُتل هو فريدي لا المرأة. ونظرا لما جرى مع متيلد، انحاز الأب لهيلدا (بلّا) – وهو اسم الدلع الذي يدعوها به- وشرع يأتيها بالهدايا، والألعاب الكثيرة، ويغدق عليها من عطاياه ما لا حصر له، ولا حدود. وعندما شبَّت أرسلها إلى معهد لتعليم الرقص في جونية. وعندما أعربت عن رغبتها في السفر لأميركا، ووقف الجميع ضد الفكرة، وجد في رغبتها هذه ما يعزز اعتقاده بأنها سترفع اسم العائلة عاليًا، فقد تكون راقصة، ومصممة أزياء مشهورة. وفي طابق 99 التقت للمرة الأولى بمجد – أحد ضحايا المجزرة المشهورة- لتتَّقدَ شرارة الحب في بيادر النقيضين المغتربين؛ مجد، وهيلدا. سألها بعد أن سمعها تتكلم بالهاتف: هل أنت عربية، من أين؟ فأجابت من لبنان، وأنت؟ من فلسطين، لكني كنت مقيما بلبنان من سنين, عندما سألته عن المكان، تردد في الجواب، ولكنه توكل على الله أخيرًا، وقال: إنه من لاجئي مخيم صبرا وشاتيلا. ولم يحتجْ التعارف لأكثر من دقائق، كان قد دعاها فيها لتناول الطعام في مطعم قريب واستجابتْ، وما هي إلا أيام معدودات حتى كان الحب قد جمع بين القلبين الغريبين في نيويورك، رغم تباعد الجذور، واختلاف الإيديولوجيات.  هاجس العودة في نيويورك تطوَّر(مجد) على الرغم من أنه يعاني على المستوى الذاتي من ندْبَةٍ في الوجه، وعرَجٍ في إحدى رجليه، وتطورت هيلدا، فاصبحت تجيد الرقص التعبيري بأسلوب مارتا غراهام.

أما علاقتهما الغرامية، فتجاوزت الحدود، فهما يقيمان في شقة واحدة تمامًا مثل زوجين. تربطهما علاقات متينة باللبناني محسن(مايك) وماريان( أرملة الجندي جون) وإيفا (المكسيكية) المتزوجة من (مايك). بَيْدَ أنَّ هيلدا، وعلى الرغم من هذا كله، تعاني من هاجس الحنين للبنان، فكلما اتصل بها والدها، بالغ في الإلحاح عليها بضرورة العودة إلى البلد، ولو على سبيل الزيارة.

أما (مجد) فإنه يخشى إن هي عادت أن يفقدها للأبد، لا سيما بعد أن يعرف ذووها أنها غارقة إلى أذنيها في علاقة بفلسطيني. على أن ما كان يخشاهُ، ويتوقعه، لم يحدث. فبعد وصولها إلى المتن، وفي القرية التي نشأت فيها تستعيد ذكريات الطفولة، وفي خطاب مطول ترسله المؤلفة على هيئة تداعيات تروي الكثير مما جرى لها في لبنان، فقد وجدتْ نفسها على النقيض من أبيها ومن عمّها جورج، ومن أمها، وشقيقتها، ومن متيلد، ومن كل من يحيط بها، باستثناء لوريس الخادمة، و(جورجيو) المهبول. واكتشفت أيضا أنّ كل ما كان يُلقى على مسامعها أكاذيبُ تفندها الحقائق، فعندما أقنعت عمها جورج بالسماح لها بدخول القبو الذي يُفترض أن فيه مستودعًا لاختزان المؤونة، وجدت فيه ما يؤكد لها أن أباها، وعمَّها فريدي، وعمَّها جورج، وكل من لهم بهم علاقة من الكتائب، مجرمون، وأنهم يفخرون بماضيهم الدَمويّ، ولا يخجلون. فالأشلاءُ، والأيدي المقطوعة، والأجسام المشوَّهة، التي تمثل نماذج من الضحايا اللبنانيين والفلسطينيين، أتخذها عمُّها جورج نماذج وموديلات لمنحوتات من الصلصال، والخزف، والسيراميك، فهو قاتل يتلذَّذ بجرائمه، وأما الآخر، فريدي، فقد روت لها لوريس حكايته كاملة. ولهذا كان عطفها على جورجيو، وعلى الخادمة لوريس، مصدر إزعاج لأبيها الأرثذوكسي الإقطاعي الذي لا يمكنه أن يتخيل ابنته تجالس حثالات من أمثال لوريس، وجورجيو، وغيرهما من فلاحي المتن الذين يشاركون في قطف الزيتون.

وعندما نهرها على مائدة الطعام، انفجرت في وجه الجميع قائلة بصوت عال: إنها ستغادر إلى أميركا ثانية، وأن هناك رجلا فلسطينيا من مشردي صبرا وشاتيلا تحبُّه، وهو بانتظارها بعيدًا عن الزيف الذي يحاولونَ إغراقها فيه. في تلك الأثناء، وعلى وقع الصخَبِ الذي فجَّرته قنبلة هيلدا الموقوتة، سُمعتْ أصواتُ أعيرة نارية تطلق في الهواء ابْتهاجًا بتعيين والدها وزيرًا في الحكومة الجديدة، بينما كان السائقُ بانتظارها ليقلَّها إلى مطار بيروت.  عكس التيار وتأتي عودة هيلدا إلى نيويورك – إلى منفاها الاختياري- تأكيدًا لما كانت تقوله لمجد، وهو أن السير في غير الاتجاه الذي تحتِّمه الجذور قد يكون أكثر خيرًا، وأعظم فائدةً، من السير مع التيار.

على أن الرواية لم تقل لنا ما إذا كان مجد، وهيلدا، قد اجتمعا من جديد في طابق 99، أم لا. بيد أن الفقرة الأخيرة من المشهد الروائي الأخير توحي بهذا، مؤكدة أن مخاوف (مجد) وهواجسه، لا تلتقي مع إصرار هيلدا، وعنادها، فقد تخلَّتْ عن طبقتها الاجتماعية، وعن ذويها، ومشروعهم الانعزالي، وآثرت البقاء في المخدع الذي ينْبذُ عن نوافذه أيَّ رذاذ لطوفان الكراهية المقيت.  فتاةٌ وأبجورة في المقابل ثمة حكاية أخرى بطلاها محمد – ابن خالة مجد- ومريم، اللبنانية، التي تعيش مع أهلها في منزل متواضع في الجزء اللبناني من مخيم صبرا. يولع بها محمد، لكنه لا يستطيع رؤيتها إلا من خلال الفراغات التي تفصل بين عوارض الأباجورة التي تغطي نافذة البيت. وهي تبادله النظر بالطريقة ذاتها من خلال تلك الفراغات. وقد أخفق إخفاقا ذريعًا في إقناع أمه لتخطبها له، ذلك لأنها تخشى أنْ يرفض أبوها هذه المصاهرة، فهم لبنانيون، وأنت فلسطيني. وكلَّما طرح هذا السؤال على الآخرين، أجابوه: ما الذي يضطرك للزواج من لبنانية، تزوجْ فلسطينية، ولا تقامر بالتعرض لصدمة نفسية لو أنهم رفضوا. في نهاية الأمر جاء بائس مغتربٌ وتقدم لمريم، ووافق ذووها على زواجه منها، وفوجئ محمد بالزغاريد، والأغاني، تنطلق من النافذة ذات الأباجورة، ولم يستطع أن يسترق النظر، لكنه كان قادرًا على تخيل مريم في ثوب زفافها الأبيض، وقد ملأت مساحيق التجميل وجهَها، وعينَيْها، وشفتيْها، والنساء من حولها يرقصنَ غير آبهاتٍ بذلك العاشق المنكوب الذي يعاني مرارة الفَقْد. وتخفيفًا يدعوه (مجد) لمغادرة المخيم، والسفر إلى أميركا، واعدًا بتحمُّل نفقات السفر، والإقامة، في نيويورك، وبالطبع يوافق العاشق الذي خسر الفتاة، والأباجورة، على ترك المخيم، والسفر إلى بلاد العمّ سام.

 إيفا ومحسن حكاية أخرى توازي هاتين الحبْكتين، وهي حكاية إيفا، ومحسن اللبناني، الذي غادر هو الآخر المخيم إلى نيويورك، وقد استطاع في وقت غير طويل أن يحقّق نجاحًا، وأنْ يثري، وأن يكوّن لنفسه علاقات نسائية كثيرة، ولكنه ارتبط بالمكسيكية إيفا التي عانت في طفولتها هي الأخرى ما عاناه سائر أبطال الرواية من قسوة تارة، ومن تعرض للاغتصاب على يدي زوج أمّها تارة. إلخ.. وكانت تربط محسن(مايك) ومجد وهيلدا علاقة صداقة عائلية قوية، غير أن الأمور لم تدُمْ على خير ما يرام، فقد ضبطت إيفا زوجها مايك متلبسًا بالخيانة مع امرأة أخرى في سريرهما ، فثارت ثائرتها، وقررت الانفصال عنه، وأعلنت جهرًا أنها هي الأخرى تخونه، وأنها تخلصت من جنين كان من الممكن لو بقي حيًا أنْ يربطها به من باب الأبوة. وهذا الادعاء أغضب محسن كثيرًا، وقد أراد أن يتحقق من الإجهاض، غير أن الأمور ازدادت تعقيدًا بعد أن وقعت أيفا تحت تأثير مخرج استغل فيها عشقها للتمثيل التلفزيوني، والسينمائي.

 وفي موازاة هذا كله، لا تفتأ إيفا تتّصل بهيلدا، وتزور مجدًا لتطمئن منه، بسبب عدم ردها على المكالمات الهاتفية، فتعلم منه أن هيلدا في لبنان. وتواصل الإلحاح عليه لكي يتواصل مع هيلدا على الرغم منْ قلقه.  ماريان وجون وثم حكاية رابعة هي حكاية ماريان، التي تنحدر من أصول هندو- أمريكية، فقصتها تتلخص في أنَّ زوجها جون، وهو جندي في الجيش الأميركي كان قد أرسل إلى الشرق الأوسط للاشتراك في حرب تحرير الكويت، وقد انقطعت أخباره، ولم تعد ماريان تعرف إن كان حيا أم أنه قتل في الحرب، أم وقع أسيرا، وكان قد ذهب للحرب التي لم تقتنع ماريان بأنها ضرورة، أو أن فيها مصلحة للولايات المتحدة. ومع ذلك تجد نفسها طوال هذه المدة حائرة: زوجٌ لا تعرف مصيره، وابنان يحتاجان للرعاية، والتعليم، والعلاج، والحنان، وهي أيضا تحتاج لمن يؤنس وحدتها في الفراش، وجلُّ هذه الرغبات تشعرها بالإحباط، وبأنها هيكل امراةٍ، أو حطام شيء يُقال له امرأة، فتبكي كثيرا ثم تغادر طابق99 وتعود ثانية مأزومة بدرجة أكبر، إلى أن كان يوم من عام 2000 عندما تلقت دعوة من الجيش، وهناك أبلغوها أنهم عثروا على رفاة جندي في صحراء الكويت، وبعد الفحص، وتحليل الحمض النووي، اكتشفوا أنه مطابق لأحد أفراد عائلته، فالرفاة هي رفاة جون. واقيمت له جنازة رسمية، لكن ما قيمة تلك الجنازة، وما قيمة الكلمات الرقيقة التي ألقيت تأبينًا لهُ على قبره؟ فالحرب حين تنتهي، ويتوقف مطلقو النار عن استخدام البنادق، تبدأ الارتدادات التي تستمرُّ زمنا غير قصير. عشرات السنين إن لم نقل المئات. فماريان، والابنان، مثل مجد ومحمد ومحسن، ومريم، سيظلون يعانون من آثار تلك الحرب على الرغم من أن المهمَّة انتهت. فالحرب التي تشتعل، ثم يتوقف ضِرامُها، وتضعُ أوْزراها، حربٌ لا يتخلَّص الناس من آثارها المأساوية على الإطلاق، فكما أن (مجدًا) يحمل من آثار تلك الحرب ندبة في وجهه، وإعاقة في إحدى رجليه، تعاني كذلك هيلدا من آثار تلك الحرب عليها، وعلى شقيقتها متيلد، ووالدها المستوزر، وعمّها جورج، وفريدي المنتحر، وعليها هي، إذ يُنظر إليها على أنها متمردة وخارجة على قانون الانعزاليين، كذلك محمد – ابن خالة مجد- ومحسن(مايك) وماريان أرملة الجندي الأمريكي (جون) كلهم يعانون من آثار تلك الحروب على الرغم من التوقف الظاهري لأصوات المدافع والبنادق، وهذه هي الفكرة التي تُلقي بظلالها على الرواية.

 سرد متقطع تلك الرواية التي تنْحو الكاتبة جنى فواز الحسن فيها منحى مَنْ يروي الحوادث في سردٍ متقطع لا متسلسل ( أكرونولوجي) فقد بدأت بمشهد يودع فيه العاشقان مجد وهيلدا بعضهما في مطار نيويورك، هي تغادر إلى لبنان، وهو يعود أدراجه إلى الطابق 99. لكن المشهد في الواقع ينبغي له أن يُروى بعد حوادث جمّة يفترض أن تسبقه بكثير. فبعد هذا المشهد يسرد الرواي حكاية المجزرة، وقدومه مع أبيه إلى أميركا، والتحاقه بالمدرسة، وبالجامعة، والنجاح الذي حقَّقه في شركة لتصميم الألعاب الإلكترونية، وبالأسلوب نفسه يقف بنا الراوي على موقف يلتقي فيه هيلدا لأول مرة، والتسلسل الافتراضي يوجب أن تروي لنا هيلدا كيف قدمت إلى أميركا لدراسة تصميم الأزياء، والرقص. وهذا الجزء ترويه لاحقاً. فالكاتبة لا تفتأ تلجأ لهذه المفارقات السردية، فإما أنْ يروى الحدث المحفِّز لوقوع حوادث أخرى على هيئة الاسترجاع، وإما على هيئة استباق.

وعدا عن هذا المنحى تتكئ الكاتبة على التواتر، أي: تكرار رواية الحدث الذي يقع مرة واحدًا مراراً. ومن اليسير على القارئ أنْ يلاحظ- مثلا- أن الراوي (مجد) يروي لنا ما جرى في صبرا وشاتيلا ليلة 16 ايلول – سبتمبر 1982 مرارا، وفي كل مرة تختلف زاوية النظر، ففي حين يجري تسليط الضوء على الفاعلين في موقع، يتم تسليطه على الضحايا في موقعٍ آخر، وعلى آثار تلكَ المذبحة في موْقع ثالث، وهكذا. أما الحوار ، فهو أبرز الأساسيات التي تقوم عليها رواية طابق99. على أنه حوار ينْدَمج – في معظم الأحيان – بالسرد من خلل المونولوجات الداخليّة التي يتحايل عبرها كل من مجد، وهيلدا، لذكر أحداث وقعت لهما في طفولتيهما، أو لسرد توقعات ينتظران فيها وقوع حوادث أخرى فيما يشبه التنبُّؤ، أوْ الاسْتشراف. ومثل هذه التداعيات تُمكّن القارئ من الدخول في عالم الشخصيَّة، والاطلاع على ما تضمره من أسرار، ومن خفايا، وما يراودها من أحلام، وكوابيسَ تسهم- بصورة من الصُوَر- في ترسيخ ملامح الشخصية المميّزة لها عنْ غيرها من الشُخوص، وتمنحها القدرة على اللصوق بذاكرة القارئ. ولهذا فإنّ الشخصيات الأساسية فيها: هيلدا، ومجد، ومحسن، ومحمد، وماريان، وإيفا، ووالد مجد، ووالد هيلدا، ولوريس، وفيليب، وجورجيو، شخصياتٌ تتمتع بحضور سرْديّ قويّ، ومؤثرٍ في خلق الانطباع بجودة الرواية، وقدرات الكاتبة جنى فواز الحسن التي تشفّ عن خِبْرةٍ، وتمرُّس بالكتابة، على الرغم منْ أنَّ هذه الرواية هي روايتُها الثانية. * ناقد وأكاديمي من الأردن – الدستور

Related posts

صدور كتاب الأردن وحرب السويس 1956 للباحثة الأردنية الدكتورة سهيلا الشلبي

وزير الثقافة يفتتح المعرض التشكيلي “لوحة ترسم فرحة” دعما لأطفال غزة

قعوار افتتحت معرضها الشخصي “العصر الذهبي”