عروبة الإخباري – سليمان المعمري – روحي الصفدي بين الحياة والموت. لا أعرف كيف سأخبر أمي بهذا النبأ. لا بد أنها ستنفجر باكية، هي التي تتسمر يومياً أمام الشاشة وكلها دعواتٌ له بأن ينصره الله على أعدائه الذين يتربصون به الشر، وخاصة خصمه اللدود بطيحان ( لا تعرف أمي أن بطيحان اسمه الحقيقي زهير النوباني، كما لا تعرف روحي الصفدي باسمه هذا، بل باسم «راكان» وأحياناً تسميه «غضيّان»).
منذ أن عرفتْ أمي أن ثمة قناة متخصصة في الدراما البدوية وهي لا تضع في تلفزيون غرفتها إلا قناة واحدة : «الأماكن دراما» التي تحول اسمها بعد فترة إلى «القناة البدوية». لا تمل من متابعة المسلسلات البدوية حتى وإنْ تكررت كل عدة أسابيع.
وشيئاً فشيئاً وبالتبعية أيضا صار أبي يحب المسلسلات البدوية، إذ لا خيار فرجة آخر لديه.
ليس روحي الصفدي وحده هو المفضّل لأمي، بل هناك أبطال آخرون ( منهم محمد العبادي مثلا، الذي لا تعرفه باسمه الحقيقي بل باسم «نشمي») ولكنه – أي الصفدي – الأكثر حظوة لتكرره في مسلسلات عديدة. بل إنه أحياناً يكون غضيّان في الصباح وطراد في المساء. أما أنا فيمثل لي روحي الصفدي بالذات أيقونة من أيقونات مراهقتي الغضة، كان رمزاً للفروسية والشهامة والنبل، بوسامته الواضحة، وصوته الجهوري، وكاريزماه أمام الشاشة. في بدايات عمر مراهقتنا في ثمانينيات القرن الماضي كنا – أنا وأترابي ممن يتاح لهم متابعة المسلسلات البدوية في قنوات عُمان وأبوظبي ودبي، حيث لم تكن القنوات الفضائية قد ظهرتْ بعد – كنا نحبه ونغار منه في الوقت ذاته، كونه كان فتى الشاشة الأول، معشوق جميلات التلفزيون العربيات آنذاك: الأردنيات عبير عيسى، وإيمان هايل، وناريمان قوادري، والعراقية التفات عزيز، والسورية جيانا عيد، وغيرهن. لكني حين كبرتُ، واكتشفتُ شيئاً فشيئاً تكرار القصص البدوية حد الملل انفضضتُ عنها. تكاد تكون القصة نفسها في كل مرة : ابن شيخ قبيلة يكون في رحلةٍ ما بحثاً عن الكلأ والمرعى فيمر على الغدير ليجد فتاة آية في الحسن والجمال فيطلب منها أن تسقيه، ثم يقع في حبها وتقع هي في غرامه، ولكن ابن عمها يكون لهما بالمرصاد ويسوّد حياتهما طوال الخمس عشرة حلقة، إلى أن ينتهي المسلسل نهايته السعيدة المتوقعة بالتئام شمل الحبيبين ووقوع ابن عم الفتاة في شر أعماله، وتنفس المشاهدين الصعداء. عدا هذا التكرار الممل في القصص اكتشفت أيضا أن الإخراج في الثمانينيات كان بدائيا جداً ولا يحفل بالصورة البصرية بقدر ما يحفل بالحكاية التي تدغدغ مشاعر الكهول. وهذا ما يفسّر شعبية مثل هذه المسلسلات لدى كبار السن تحديداً، لدرجة أن بعضهم كان يسمي أبناءه بأسماء الشخصيات البدوية. واليوم بات طبيعياً أن نرى في مجتمعنا العُماني أسماء فتيات كـ«روابي»، و«العنود»، و«الهنوف»، وأسماء رجال كــ«راكان»، و«متعب»، و«نشمي» تأثراً بهذه المسلسلات.
الصفدي وأمي ألحا عليَّ بشدة اليوم حين قرأت الخبر. أمي التي يزداد حبها لهذه المسلسلات يوماً بعد آخر، كنتُ أمازحها أحياناً ساخراً وأنا أشاهد روحي الصفدي على الشاشة : «هذا بعده ما قتلوه ؟»، فترد على الفور : «الله يجيره». هو اليوم بأمسّ الحاجة إلى دعائك يا أمي. إنه مصاب بـ«كسر في الجمجمة ونزيف في الدماغ وجرح قطعي من أول الحاجب إلى داخل الأذن وكسور في القفص الصدري» حسب المواقع الإخبارية الأردنية. إذ تعرض لحادث سير شنيع أدى أيضاً إلى وفاة زوجين شابين. رحماك ربي. إن حادثاً كهذا سيذكّر أمي على الفور بالحادث المماثل الذي راح ضحيته ابنها محمد قبل ست سنوات. أمي لم تعد تذكر أمامنا أي شيء عن محمد لدرجة أننا نظن خطأً أنها نسيتْ، لكن يحدث أحياناً موقف بسيط فتذكّرنا أنها لم تنسَ. لم تشاهد أمي روحي الصفدي في مسلسل إلا وأحبته ودعت له بالخير، عدا مرة واحدة؛ عندما كان «عُقْلة» في مسلسل «ابن حران»، فقد كان شريراً حد أنه كاد يسمم عمّه شيخ القبيلة الطيب لولا الطبيب الماهر ابن حران الذي أنقذه قبل الموت بلحظات، فوقعتْ ابنة الشيخ الجميلة بدور في حبه. كان الدور على الصفدي هذه المرة ليتقمص شخصية ابن العم الذي يكدّر على الحبيبين صفوهما طوال الحلقات، ولذا فقد نال نصيباً وافراً من لعنات أمي. بالنسبة لي لم أتابع هذا المسلسل عند عرضه أول مرة سنة 1990 بل مع أمي وأبي في القناة البدوية هذا العام. ومن هذه المتابعة عرفتُ أن الصفدي ممثل قدير بالفعل، فقد أقنعني بشرّه مثلما أقنعني عشرات المرات في دور الرجل الطيب. أبي أيضا يحب روحي الصفدي، ولكنه يختلف عن أمي في أنه يعرف اسمه الحقيقي. بل إن أكثر من نجم ممن تتكرر أدوارهم في هذه المسلسلات بات أبي يعرفهم بأسمائهم بمجرد ظهورهم على الشاشة: محمود أبو غريب، عبدالكريم القواسمي، جميل عواد، عبير عيسى، وغيرهم. لو أخبرتُ أبي عن الحادث سيعرف على الفور من هو المقصود، أما أمي فعليَّ أن أقول إنه عقلة أو غضيان لتعرف أنه روحي الصفدي.
بمجرد قراءتي للخبر شعرتُ بحاجة ماسة للتعرف أكثر على روحي الصفدي. وحين عدتُ إلى الصديق جوجل اندهشتُ أن هذا الشاب الأبدي منذ الثمانينيات يبلغ من العمر عند كتابة هذه السطور خمسة وستين عاما. لم أره إلا شاباً، حتى وهو يواصل أداء أدواره البدوية في الألفية الجديدة. هذا الفنان الملتزم الذي صرح مرةً أنه راض تماماً عن كل ما أدى من أدوار، وأنه ليس هناك ما يندم عليه لأنه احترم الناس في كل ما قدمه، هذا الفنان المحترم يرقد الآن بين الحياة والموت. لعل الله ينقذه في نهاية المطاف، فالموت بحادث سير نهاية حزينة ومؤسفة بالفعل لفارس مغوار لم تقتله السيوف ولا الرماح، وظل دائما ذلك الشجاع المهيب الذي يحلف الجميع بحياته؛ أفراد عشيرته في المسلسل، ومتابعوه ومعجبوه الكثر من المحيط إلى الخليج. لذا سوف لن أخبر أمي بأي شيء عن الحادث. سوف لن أكدرها بخبر محزن كهذا.- عن صحيفة عُمان