في انتخابات أميركا الرئاسيّة في 2000، حين تأخّر إعلان نتائج المنافسة بين جورج دبليو بوش وآل غور بسبب فرز الأصوات في فلوريدا، ظهرت دعابة عربيّة يصلح أن تُروى عن أيّ بلد يُجري انتخابات شكليّة. فقد تباهى العربيّ المفترض بقوله: إنّ الفارق بيننا وبينهم أنّ الأميركيّين لا يعرفون نتائج الانتخابات إلاّ بعد وقت طويل على حدوثها، فيما نحن نعرف النتائج قبل وقت طويل على إجرائها.
وإذا رمزت النكتة هذه إلى فوارق كبرى بين الثقافتين السياسيّتين السائدتين في العالم العربيّ والولايات المتّحدة، فإنّ العلاقة بروسيا بوتين تُعفي من مزاح كهذا. ذاك أنّ الصلة ببوتين تنطوي على جدّيّة العلاقة بين المسحور بالساحر، حيث يعبّر الرئيس الروسيّ عمّا نفعل وعمّا نشتهي أن نفعل ولا نستطيع. فهو، في آن واحد، قدراتنا ومستحيلاتنا، وهو شبيهنا ومثالنا معاً.
فسيّد الكرملين ابتدع صيغة في التناوب مع ديمتري ميدفيديف مدهشة يسيل لها لُعاب الحكّام. لكنّه حين يحكم، مباشرة أو مداورة، يمارس نوعاً من تجاوز التفويض الديموقراطيّ، تعزّزه الكفاءات غير الديموقراطيّة التي ينمّيها العمل في مخابرات سبق أن درّبت أقوى أجهزة مخابراتنا. فهو يخاطب فينا المتشاطر والمراوغ الذي لم تشذّبه تقاليد سياسيّة ولا إملاءات مؤسّسيّة، خصوصاً أنّ سيرة انتقاله من «الكي جي بي» التي غادرها في 1991، ووصوله من بطرسبورغ إلى موسكو في 1996، سيرة راسبوتينيّة جعلته يحيط بالمريض والسكّير بوريس يلتسن إحاطة الراهب غريغوري راسبوتين بآخر بيت رومانوفيّ حاكم. ومن شطارته، التي تستهوي الفهلويّ فينا، أنّه «أنقذ» بلده المتداعي بدواء الارتفاع الذي أصاب أسعار النفط والغاز الطبيعيّ، بموجب اقتصاد ريعيّ يعفي من الإنتاج ومن الجهد والتفكير، كما يجنّب مغبّة الحرّيّة بوصفها مصدر الخيال والإبداع في اقتصاد ما بعد صناعيّ، لكنْ بوصفها أيضاً محكّ المسؤوليّة. أمّا أن تُلغى بورجوازيّة مستقلّة تطالب بالسلطة، أو بحصّة منها، فهذه نعمة تفوق ما نستحقّ.
أبعد من ذلك أنّ بوتين حاكم «قويّ»، لا بالمعنى الذي يجعل مؤسّسة الحكم قويّة، وطبعاً ليس بما يجعل المجتمع قويّاً. إنّه قويّ بالمعنى الذي يستمدّ القوّة من الجيش أو الأمن، ودائماً من هيبته على المحكومين وخوفهم منه. فإذا ما ذهب بعيداً في دوس كراماتهم، أنعش تلك الكرامات المُداسة إنعاشاً زائفاً بمواجهته للخارج. وأميركا، بالطبع، حاضرة ناضرة لأن تكون ذاك الخارج الذي يُسنّ سيف الكرامة التافهة على حديده.
وبوتين، بوصفه رمزاً لدولة «قويّة» وكبرى، أتاح له التراخي الأميركيّ والغربيّ أن يضمّ القرم ويتدخّل في الشرق الأوكرانيّ، يخدمنا وينوب عنّا، نحن الذين نريد أيضاً إلحاق الهزيمة بأميركا. وهذا، كما نعلم، أرّق ويؤرّق قوميّين وشعبويّين وإسلاميّين ويساريّين باتوا يردّدون، بعد سيّدهم، فيما مجتمعاتهم وبلدانهم تتفسّخ وتنهار، أنّ «زمن الهزائم ولّى».
ولئن رتّبت ملاحم بوتين أكلافاً، كتعريض روسيا للعقوبات، فإنّ صدّام حسين، أحد أبرز «أبطال الأمّة العربيّة»، كابد تلك العقوبات من دون أن يتسنّى له النجاح الذي تسنّى لبوتين. لا بل يستطيع الحاكم الروسيّ، على رغم كلّ شيء، أن يفرض نفسه «حليفاً» للغرب في غير موقع ومسألة.
ولحكّام طغاة كبشّار الأسد، يبدو الرئيس الروسيّ نصيراً للأمر الواقع الذي جعله يرث أباه قبل أن يباشر القتل الجماعيّ، فكأنّ بوتين العمّ الأكبر الحريص على تنفيذ الوصيّة التي كتبها الأب الراحل والقادر على ذلك. ثمّ إنّه يقيم حكمه من وراء واجهة ديموقراطيّة، هي بالأحرى انتخابيّة، تلطّف صورة الطاغية الصغير وتنعّمها، وهذا من دون توريطه أيديولوجيّاً على ما كان الأمر إبّان الاتّحاد السوفياتيّ وفي زمنه الحزبيّ والعقائديّ. فاليوم، وبفضل بوتين، يمكن الأسد وأمثاله أن يمارسوا الحنين إلى الزمن السوفياتيّ من دون أيّة كلفة إيديولوجيّة أو مبدئيّة. فهذه الأخيرة إنّما استُبدلت بالشطارة المحضة التي تحمل أصحابها على الغطس في الفساد النيوليبراليّ مصحوباً بغضّ النظر عن صداقة بوتين ونتانياهو.
وفي بوتين خليط من العلمانيّة والدين، ومن قوميّة الدولة وإمبراطوريّتها، وهي كلّها امتُحنت في غروزني إحراقاً للأرض ومثالاً مرغوباً في التعاطي مع المحكومين.
واليوم، إذ تتعثّر الديموقراطيّة الليبراليّة، ويجزم دونالد ترامب بأنّ بوتين قائد أفضل من أوباما، يلوح كأنّ ذاك السحر بات يمتلك قوّة العدوى، وأنّ الرئيس الروسيّ ارتقى إلى مخاطبة المنحطّ في طبيعة البشر أيّاً كانوا.