يشكل البقاء والخوف المحركات الأساسية لمنظومة الحياة وتحسينها وحمايتها. ويشمل ذلك السياسة والإدارة والأسواق والمجتمعات والعلاقات، والحروب والتعاون والصراع والازدهار… وتشترك في هذه المحركات جميع الأمم مهما كانت قوتها ومستواها الاقتصادي والاجتماعي، لكن الإنسانية في تطورها وارتقائها، طورت منظومات للبقاء وتحسين البقاء ومواجهة المخاطر والمهددات، تقوم على الثقة والتعاون والمصالح والعقد الاجتماعي العام؛ بما هو اتفاق على الحريات والعدل وحقوق الإنسان وحماية البيئة والطبيعة والانتخابات العامة والديمقراطية. وقد وجدت في ذلك تحقيقا للأهداف الإنسانية الأساسية بشكل أكثر فاعلية وأقوى أثرا من الصراع والقوة الخشنة والاستبداد والعنف.
الضمان الاجتماعي لم يكن فكرة نضالية أنشأتها وتشكلت حولها الحركات النقابية والعمالية والاشتراكية، كما يبدو اليوم. ولكنها مبادرة اجتماعية ومؤسسية طورها بسمارك، مؤسس الإمبراطورية الألمانية وأول مستشار لها (1871-1890)، لاستيعاب ودمج الطبقة الوسطى -التي بدأت تصعد وتزدهر في الثورة الصناعية- في أهداف وسياسات الدولة والمجتمع. ففي انتظار التقاعد للموظفين والمهنيين، يمكن إبعادهم عن المغامرات والثورات. بمعنى أنها ابتداء فكرة محافظة للاستثمار في الخوف، وتحويله إلى انضباط وتقاليد اجتماعية ومؤسسية. ففي هذا الانضباط للطبقة الوسطى تشكلت قيم العمل والإصلاح السياسي. وبعبارة بسيطة، فإن الإصلاح السياسي لم يكن سوى مخاوف الطبقة الوسطى؛ مخاوفها من الفقر وظلم الطبقات الغنية التي كانت تسمى الأرستقراطية، وقد وجدت في الديمقراطية وإصلاح التعليم والصحة والرعاية… العقد الاجتماعي المنظم للدول والمجتمعات. وكانت الانتخابات تسوية للصراع على القيادة، بحيث تدور النخب ليكون الانضمام إليها متاحا لمن ينتخبه الناس والعصاميون الأكفاء، وليخرج منها من يفقد كفاءته وثقة الناخبين.
الانتخابات، إذن، هي الارتقاء بالخوف لتشكيل عقد أمان. ولأجل أن يظل هذا العقد فاعلا وصالحا للعمل والتطبيق، يجب أن تكون للمجتمعات نخب وقيادات تعرفها. وتتنافس هذه النخب على اكتساب ثقة المواطنين. ولأجل ذلك، يفترض أن تجتهد النخب في تطوير أدائها وتصحيحه، لتكون ملهمة للمجتمعات وقادرة على إقناعها واجتذابها في صناديق الانتخابات. فإذا لم يكن لدينا نخب ملهمة ومتفاعلة مع المجتمعات وهموم الناس وأولوياتهم واحتياجاتهم، تفقد الانتخابات معناها؛ تتحول إلى ما يشبه مباراة كرة قدم من غير كرة! فكما تحرك هذه الكرة الصغيرة اللاعبين وتنشئ كل قوانين ومهارات اللعب، فإن الثقة والإلهام هما ما يحرك التنافس والجدل بين المواطنين والنخب، وتكون الانتخابات مثل مباراة لحسم الاختيار. لا انتخابات من غير قادة ونخب وخيارات للتنافس والترجيح. وفي العزلة القائمة بين النخب -بمن هم قادة الدولة والمجتمع والأسواق والأعمال والمدن والمهن والثقافة والفنون والمؤسسات- وبين المجتمعات والمواطنين، بما يشغلهم ويعنيهم؛ العدل والحريات والتعليم والصحة والعمل والرعاية الاجتماعية… لا يكون إلهام وتنافس واختيارات، فتكون الانتخابات مثل مباراة يدخل فيها إلى ساحة الملعب جميع الناس، الجمهور هو اللاعبون، يتدافعون نحو الكرة الضائعة والتائهة، وربما غير الموجودة؛ والمرمى يتحول إلى هامش لا يراه أحد، ولن يشغل أحد أو يعرف معنى دخول كرة الى شباك المرمى، فكما يمثل اللاعبون الجمهور فإن المرشحين يفترض أن يمثلوا المواطنين.
الرسالة التي تبعثها النخب الى المجتمعات والطبقات الوسطى في الحياة السياسية والانتخابية القائمة: لا تُتعبوا أنفسكم بالتفكير، نحن نفكر عنكم؛ لا تُتعبوا أنفسكم بالتعلم أو الشعور بالمسؤولية، فلن يفيدكم ذلك شيئا، لا خيار لكم سوى الاعتماد علينا. وتكاد تكون السياسة والانتخابات تخويفا للمواطنين بدلا من بناء الثقة.
الأردنيون يخوضون نضالا يائسا ونبيلا لأجل كرامتهم، ويرون أنفسهم غير ما تراهم النخبة؛ ويرون النخبة غير ما ترى نفسها، ويستحقون نواباً يعبّرون عن تطلعاتهم ورؤيتهم لأنفسهم.