تسود منطقة الشرق الأوسط حالة من الفوضى الشاملة تنذر بعواقب وخيمة ليس فقط على شعوب المنطقة لكن أيضاً على أمن واستقرار النظام العالمي ككل. ولهذه الحالة أسباب ومظاهر عدة أهمها: 1- فساد واستبداد معظم النظم الحاكمة في هذه المنطقة. 2- تشرذم النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، وعجزها عن التوافق حول صيغ فكرية وآليات مؤسسية تسمح بتداول سلمي للسلطة. 3- تفاقم الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية بطريقة يصعب في ظلها بناء دول أو مجتمعات متماسكة اجتماعياً ومستقرة سياسياً وأمنياً. 4- ظهور وانتشار جماعات إرهابية تتخذ من الدين ومن العنف وسائل ليس فقط لمقاومة النظم الحاكمة، لكن أيضاً لفرض إرادتها بالقوة على كل من يختلف مع طروحاتها السياسية والفكرية. 5- كثافة التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية ونجاح القوى المهيمنة على النظام العالمي في زرع كيان غريب في المنطقة، استناداً إلى أساطير دينية، وإصرارها على تقديم دعم غير مشروط له والتغاضي عن سياساته التوسعية والعنصرية.
ولأن منطقة الشرق الأوسط تتوسط العالم القديم، لم يكن من قبيل الصدفة أن تصبح مهداً لأعرق الحضارات ومهبطاً لكل الأديان والرسالات السماوية، وأن تنشأ وتتفاعل فوق ساحتها أقوى الإمبراطوريات. وعلى رغم التباين المذهبي والعرقي لشعوب هذه المنطقة، وتعاقب الإمبراطوريات المختلفة على حكمها، إلا أنها ظلت في معظمها، وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، تابعة لكيانات إمبراطورية كبرى، كانت الإمبراطورية العثمانية آخرها. ومع انهيار وتفكك الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى, انفرط العقد الذي كان يربط شعوب هذه المنطقة، وتم غرس بذور الفوضى التي بلغت ذروتها هذه الأيام. فالخرائط الجديدة التي رسمت للمنطقة وفق مصالح الدول المنتصرة في هذه الحرب رسمت حدوداً جغرافية لكيانات سياسية بدا معظمها غير قابل للتحول إلى دول حديثة، أو إلى نظم حكم ديموقراطية بسبب افتقارها للمقومات الوطنية أو القومية اللازمة.
ولكي تتضح أمامنا أبعاد ومعالم الصورة الكاملة لحالة الفوضى الشاملة التي تمسك بمنطقة الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة، ربما كان من المفيد أن نميز بين ثلاث دوائر مناطقية تتداخل تفاعلاتها البينية المؤثرة في صنع هذه الحالة:
فهناك دائرة عربية تتكون من 21 دولة ناطقة باللغة العربية، ويضمها إطار مؤسسي واحد تمثله جامعة الدول العربية.
وهناك دائرة إقليمية أوسع تضم دول الجوار الجغرافي للعالم العربي، خصوصاً الدول المتاخمة لحدوده الشرقية، وهي: إيران وتركيا وإسرائيل.
وهناك دائرة عالمية تضم القوى العظمى التي لها مصالح حيوية في هذه المنطقة، وتطمح للهيمنة على مقدراتها، أهمها الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي.
إن نظرة عابرة على ما يدور من تفاعلات داخل كل من هذه الدوائر الثلاث تكفي لإدراك أن الدائرة العربية هي أكثر هذه الدوائر هشاشة وعرضة للتدمير الذاتي, إما بسبب قصور في التعامل مع التناقضات الكامنة في بنية مجتمعاتها وأنظمتها الحاكمة، وهي كثيرة، وإما بسبب عجز الدول الواقعة ضمن هذه الدائرة عن ردع الأطراف الخارجية، الإقليمية والعالمية، ومنعها من التدخل في شؤونها الداخلية. فالدول العربية، التي كانت تتطلع يوماً ما لبناء دولتها القومية الموحدة، لم تكن أكثر انقساماً وتشرذماً في تاريخها مما هي عليه الآن. وعلى رغم تمكن شعوب بعض جمهورياتها من إشعال ثورات متتالية على أنظمة الفساد والاستبداد التي أطبقت على أنفاسها لفترات طويلة، ونجاحها في إسقاط عدد من رؤوس هذه الأنظمة، إلا أن هذه الثورات سرعان ما انتكست وفشل ريحها لتنتهي إما بالتمكين لثورات مضادة، أو بالتمهيد لقيام دول فاشلة تموج بالفتن الطائفية وتنتشر فيها الحروب الأهلية وتتفشى فيها الجماعات الإرهابية. أما الدول التي لم تصل إليها ثورات «الربيع العربي»، فلم يصبح حالها أفضل كثيراً، وتبدو مستنزفة ومرهقة إلى أقصى الحدود. ولا جدال في أن العالم العربي يمر الآن بأسوأ مرحلة في تاريخه، ولم يسبق له أن شهد من قبل كل هذا الكم من الدمار الذي طاول البيوت والمدارس والمستشفيات والمصانع والمزارع والحقول، ولا مثل هذه الأعداد من القتلى والجرحى والمشردين والنازحين والمهجرين والتي تقدر بعشرات الملايين.
الأخطر من ذلك أن الدول العربية التي لا تزال متماسكة نسبياً تبدو مشغولة بنفسها وبأمورها الداخلية إلى الدرجة التي أصبح معها العالم العربي أشبه بسفينة بلا قبطان أو جسد هزيل بلا عقل قادر على قيادته وانتشاله مما هو فيه.
وإذا توجهنا بالبصر نحو ما يجري من تفاعلات داخل الدائرة الثانية فسوف يتبين لنا على الفور أن الصورة تبدو مختلفة تماماً. فإيران وتركيا وإسرائيل تبدو، على رغم كل ما تعانيه من مشاكل داخلية تختلف من حالة لأخرى، تبدو دولاً قوية متماسكة لكل منها مشروعها الخاص للوصول إلى مرتبة القوة الإقليمية الكبرى، وتملك من أدوات النفوذ ووسائل التأثير ما يسمح لها بالتمدد داخل فراغ النظام العربي. فإسرائيل تدرك يقيناً أنها دولة غير مقبولة في المنطقة، ومن ثمَّ تتعامل مع كل جيرانها باعتبارهم أعداء فعليين أو محتملين. وعلى رغم أنها لا تثق إلا في قواها الذاتية، خصوصاً العسكرية والتكنولوجية، إلا أنها تدرك في الوقت نفسه أن العلاقة الخاصة التي تربطها بالولايات المتحدة الأميركية هي شبكة أمانها الوحيدة وملاذها الأخير لحماية أمنها الوطني. على صعيد آخر فإن إسرائيل تبدو جاهزة دوماً للاستفادة مما قد تتيحه عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، وكذلك مما قد يتيحه الصراع السني الشيعي بين دول المنطقة، من فرص قد تتيح لها الانخراط في تحالف سنّي في مواجهة إيران وبما يسمح لها بتصفية القضية الفلسطينية في الوقت نفسه. على صعيد آخر، يبدو واضحاً أن تركيا تسعى للنفاذ إلى عقول وقلوب الشعوب العربية عبر نموذجها السياسي والتنموي الخاص، والذي كان يبدو حتى وقت قريب براقاً وملهماً لكثيرين, وتحاول في الوقت نفسه استثمار علاقاتها التاريخية بالعالم العربي على أمل أن تصبح من جديد قلباً لدولة «الخلافة الإسلامية» في طبعتها الحديثة أو المنقحة. أما إيران فيعتمد مشروعها التوسعي على عناصر كثيرة أهمها العمل على اكتساب ولاء الشيعة العرب الذين أهملتهم الأنظمة العربية طويلاً، وتقديم نموذج راديكالي مناقض للنموذج التركي الأكثر اعتدالاً، يدعو للتصدي للمخططات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، ولدعم المقاومة الفلسطينية المسلحة… إلخ. ومن الواضح أن المشاريع الإقليمية لهذه القوى الثلاث تتقاطع أحياناً وتتلاقى أحياناً، لكنَّ أياً منها لن يكون قابلاً للتحقق على أرض الواقع إلا بالوقوف على جثة النظام العربي.
بقي أن نلقي نظرة أخيرة على ما يجري من تفاعلات داخل الدائرة الثالثة. ولأن المساحة المخصصة للمقال بدأت تضيق، أكتفي هنا بالملاحظات التالية:
1- سيتواصل تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة في الأمد المنظور، بصرف النظر عما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية المقبلة. وعلى رغم أن الولايات المتحدة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن حالة الفوضى الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، والتي تكرست فعلياً عقب غزو وتدمير العراق، إلا أنها لن تنسحب نهائياً من هذه المنطقة، لأن مصالحها فيها لا تزال ضخمة ومتشعبة. لذا لا يتوقع حدوث أي تغيير جوهري في السياسة الأميركية المتبعة حالياً، والتي تقوم على فكرة «القيادة من الخلف» وتحميل الحلفاء قسطاً أكبر من فاتورة الدفاع عن أمنهم، سواء كان اسم الساكن الجديد في البيت الأبيض هيلاري كلينتون, وهو الأرجح, أو دونالد ترامب.
2- سيتواصل تمدد النفوذ الروسي في المنطقة في الأمد المنظور، مرتكزاً على قواعده العسكرية التي تم توسيعها حديثاً في سورية. فقد ساعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا على فتح الطريق أمام عودة تدريجية للعلاقة بين البلدين على رغم ثبات السياسة الروسية تجاه سورية. ومع ذلك فسوف تظل روسيا منتبهة تماماً إلى كل المحاولات التي تستهدف استدراجها إلى مستنقع شبيه بالمستنقع الأميركي في فيتنام أو بالمستنقع السوفياتي في أفغانستان. لذا من المتوقع أن يتواصل التنسيق الأميركي الروسي لمحاولة احتواء أزمات المنطقة وعدم السماح بانفلاتها.
3- لن يكون الاتحاد الأوروبي في وضع يسمح له بالتأثير في شكل حاسم ومستقل على تفاعلات المنطقة وسيركز جهده، من ناحية، على بحث سبل التصدي للعمليات الإرهابية التي قد تتعرض لها عواصمه مستقبلاً، وعلى وقف تدفق المهاجرين إليها، من ناحية أخرى.
4- ربما تنجح جهود دولية وإقليمية منسقة في إلحاق هزيمة عسكرية بـ «داعش» أو في استعادة معظم الأراضي التي يسيطر عليها هذا التنظيم في العراق وسورية، لكن ذلك لن يعني القضاء المبرم على التنظيم أو على الظاهرة الإرهابية ككل، بل ليس من المستبعد ظهور جيل جديد من الإرهابيين أكثر عنفاً ودموية ما لم تبذل محاولات دولية جادة لعلاج تلك الظاهرة من جذورها.
لا بد من التأكيد في نهاية هذا التحليل المركز على أن حالة الفوضى الشاملة التي تضرب الآن منطقة الشرق الأوسط مرشحة للاستمرار في الأمدين القريب أو المنظور، وربما تكون قد بدأت بالفعل تخرج عن نطاق السيطرة. لذا ليس من المتوقع أن تتمكن أي قوة دولية أو إقليمية بمفردها من تغيير معطيات هذه الحالة، ولا تلوح في الأفق إمكانية تشكيل تحالف دولي قادر على احتوائها أو كبح جماحها. ولأن العالم العربي هو الطرف المرشح لتحمل القسط الأكبر من الفواتير المكلفة لاستمرار هذه الحالة، لم يعد أمامه سوى أن يفيق من غفلته وأن يعيد ترتيب أوراقه، وإلا فإن خروجه من التاريخ سيصبح مسألة وقت.