بين حمزة وعمران/ عيسى الشعيبي

لم يصدمني مشهد الطفل الحلبي عمران، بالدرجة ذاتها التي روعتني فيها مشاهد سابقة، كانت أشد هولاً مما جرى لهذا الطفل، الذي أصبح رمزاً جديداً لمأساة تتدحرج منذ نحو ست سنوات، وسط ما يشبه التسليم بترك الجراح تنزف حتى آخر نقطة دم. فعلى الأقل، نجا عمران من موت محقق تحت الركام، ولم يتعرض لما تعرض له أطفال آخرون من تعذيب وتجويع وقتل في الأقبية المعتمة، على أيدي جلاوزة ساديين، مدربين على انتزاع الاعترافات والأرواح.

ليس أمراً بسيطاً ما جرى للطفل الذي صارا علماً، وطبّق اسمه الآفاق. لكن حكايته المثيرة تبدو حكاية سعيدة إذا ما قورنت بغيرها من قصص يشيب لها الولدان، بمن في ذلك أطفال الغوطتين الذين ظلوا نياماً إلى الأبد، تحت تأثير السلاح الكيماوي، قبل ثلاثة أعوام من اليوم، وغيرهم من ضحايا المجازر الجماعية في مختلف مدن وأرياف بلاد الشام، تلك التي قارفها نظام إجرام، تفوّق فيها على أشد مجرمي العصر، بل وحتى على عتاة المجرمين في إسرائيل.

إذ ما إن رأيت صورة عمران مجللاً بالغبار والصمت والدماء، حتى قفزت إلى الذهن صورة الطفل الحوراني حمزة الخطيب، قبل قرابة ست سنوات، وهو مسجىً بين ذراعي أبويه بلا حراك، مكسور الرقبة، مشوّه الجسد والأعضاء، بفعل التعذيب وإطلاق الرصاص عن قرب، فيما كانت ثورة الحرية والكرامة ما تزال تهدر في الشوارع والساحات، بلا أسلحة نارية، وبالطبع قبل ظهور الكتائب العسكرية والمنشقين عن الجيش والجهاديين ومنظمات الإرهاب.

لقد هزت واقعة حمزة الخطيب الرأي العام داخل سورية وخارجها، وأربكت حتى رأس النظام، الذي كان ما يزال يحرص على صورته كحاكم تعلم في الغرب، حيث تخفق عالياً هناك راية حقوق الإنسان. فأتت تلك الجريمة البشعة لتكشف زيف الادعاء الرائج عن حداثة نظام لم يكن قد استخدم كل ما في حوزته من أدوات ترهيب، وجل ما لديه من سلاح ثقيل، وبعد ذلك الطائرات، ولتسقط ورقة التوت التي كان يتغطى بها إرهاب الدولة المنظم، المتوارث من الأب إلى الابن.

على أن ما هو أدهى من قتل طفل كان يحمل علبة حليب لأطفال درعا المحاصرين، كان إنكار الواقعة من أساسها. فلما ثبت الأمر بشهادة الشهود، وانتشرت صورة حمزة على مواقع التواصل الاجتماعي، زعم الإعلام المنتمي لعصر شمولي بائد، أن الطفل ابن الاثنتي عشرة سنة قُتل أثناء محاولته اغتصاب نساء الضباط في المساكن العسكرية بدرعا، وليس بعد أن اعتقل وتعرض لتعذيب مميت، وتم تسليمه جثة هامدة لذويه، بعد عدة أيام قضاها حمزة في أقبية الموت.

أكثر من ذلك كله، فقد جرى استدعاء والد حمزة إلى القصر الرئاسي، كي يخرج من هناك بمقابلة متلفزة، بثت على الشاشة الخشبية الشهيرة بأكاذيبها الساذجة، يمتدح فيها إنسانية الرئيس، ويثني على عاطفته الأبوية تجاه حمزة القتيل، الأمر الذي أجج مشاعر القهر لدي كل من رأى تلك المقابلة، وشاهد التطبيق العملي الملموس للمثل القائل “يقتلون القتيل ويمشون في جنازته”، حيث كانت تلك الواقعة الكاشفة، إيذاناً بمرحلة جديدة من الصراع الدموي المفتوح.

لم يعد النظام المتورط حتى النخاع، في سلسلة لا حصر لها من الجرائم المنقولة فوراً على هواء البث المباشر من عين المكان، يتحسب لصورته الملطخة بدماء الصغار والكبار، أو يخشى من سوء فهم قد ينطبع في أذهان الرأي العام المحلي والعالمي عنه، بعد أن مضى إلى نهاية الشوط الطويل، قتلاً وتدميراً وترويعاً بلا حدود. ولذلك، لم يكلّف الإعلام “المقاوم” نفسه عناء إنكار واقعة عمران، أو تكذيب هذه الصورة التي هزت الوجدان في أربع جهات الأرض.

غير أن من اللافت حقاً أن تنبري الديماغوجية الروسية، بخطابها المترع بالأكاذيب، للتبرؤ من جريمة قصف منزل عمران على رؤوس أصحابه، قائلة: “إننا لم نفعلها”، من دون أن تقول من هو الفاعل، بل كادت تلصق التهمة بالجماعات التي لا تمتلك طائرات تقصف المدنيين بلا أي رادع أخلاقي، طالما أنها تجد من بين أبناء جلدتنا من يصفق لقاذفاتها الاستراتيجية، وقنابلها الفراغية والعنقودية، وهي تغير على أطفال، بعضهم أصغر عمراً من عمران الشهيد الحي.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري