توفي مطلع الشهر الجاري عازف الغيتار الأردني شادي أبو جابر، في حادث سير فيما هو متجه لإحياء حفلة موسيقية في عمان، فاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي كراهية وشماتة. ذاك أن الشاب ليس أي أردني كغيره من المواطنين في عرف هؤلاء، بل هو مسيحي. هوية تنزع عنه هوية أخرى. وأكثر من ذلك، يعزف الموسيقى! وبــشيء من الخيال الشعبي لا شك، كان مخموراً لدى وقوع الحادث الذي أفقده حياته في مقتبلها، في بلد تحصد فيه حوادث السير مئات الأرواح سنوياً وتضعه على قائمة العشرين الأوائل عالمياً في مواجهة هذه الآفة. لكن يبقى عزف الموسيقى، والديانة المختلفة، وسلوك اجتماعي مغاير، كبائر لا يستحق صاحبها عليها التعاطف او الرحمة في زمن بات شحذ السكاكين وحز الأعناق مشهداً يومياً.
اللافت كان ردود الفعل على حملات الكراهية تلك، من وسائل اعلام ومقالات صحافية أعادت انعاش قاموس «الأخوة» و «العيش المشترك»، بالإضافة الى فتوى دينية أعلنها مفتي المملكة شخصياً «تبيح للمسلم المشاركة في عزاء المسيحي». وانهالت التبريكات وكلمات الإعجاب بالفتوى وبكل من رفض سلوك «المتشددين»، حتى راح كل من جاور مسيحياً في صف مدرسي أو فضاء عام يستعرض حسن اخلاقه وطيبة قلبه. وإلى ذلك ذهب الخطاب المسيحي، في المقابل، الى التأكيد على الثوابت الوطنية للطائفة، وعمقها التاريخي في المنطقة عموماً وفضل عشائرها في تأسيس المملكة خصوصاً.
هجوم مشابه، تعرضت له السباحة السورية يسرى مارديني التي شاركت في الألعاب الأولمبية الأخيرة في ريو دي جانيرو، إذ لم يتورع أحد المشايخ عن اسقاط اللعنات عليها متمنياً لو انها ماتت غرقاً وهي تقطع البحر لاجئة بين تركيا واليونان، على ان تظهر بالمايوه. ومن بدا أقل تطرفاً من اشتهاء الموت لبطلة سباحة منحت وجهاً مشرقاً لمأساة بلدها، ذهب الى اجتراح الأعذار التخفيفية لها بأنها أنقذت مركب لاجئين من الغرق. فلنا أن نتخيل مثلاً لو انها شاركت في بطولة اولمبية بالمايوه، ولم يسجل لها إنقاذ 20 شخصاً من موت محتم، فشل قادة العالم في انقاذهم وإنقاذ بلدهم بما يردعهم عن خيارات بائسة من هذا النوع؟
وأما الأكثر تطلباً وفذلكة، فذهب الى البحث عن موقفها السياسي من الثورة والنظام ليتكرم عليها بتشجيع قد يبلغ اقصاه «لايك» على صفحتها الفايسبوكية.
وعوضاً عن ان ينصب البحث في كيفية الاستفادة من شابة ناجحة، أو التفكير في اخفاق سياسي عالمي ادى الى اجتراح خانة للاجئين في الألعاب الأولمبية، في أكبر كارثة لجوء انساني، انصب الاهتمام على المايوه، وسلوك صاحبته الديني والسياسي.
وفي المقابل، إذا كان لباس البحر ممسَكاً ضد السباحة السورية، فإن الحجاب واللباس الشرعي لم يشفعا للاعبة دعاء الغبشي، التي ربحت برونزية أولمبية في رفع الأثقال والتي انتشرت صورتها الى جانب منافسة ألمانية ترتدي بطبيعة الحال البيكيني. لكن الهجمة هذه المرة كانت مزدوجة. اذ انبرى لها «متدينون» يرفضون مشاركة المرأة اصلاً في فعاليات من هذا النوع، سيما إن كن محجبات لما في ذلك من «اهانة» للحجاب، كما اصابها المدافعون عن البكيني بسهامهم أيضاً في حملة لا تقل شراسة وضراوة وتهكماً عن سابقاتها. وإذ يــتــهم المتـــشددون المتــدينون بـ«التخلف والرجعية» وعدم مراعاة روح العـــصر، فإن «المتــــشددين العلمانيين»، في المقابل، لم يجترحوا ادوات جديدة للاعتراض والاختلاف ولم يراعوا لغة العصر وأهواءه. ذلك ان العصر وفقهم توقف عند الستينات وما حملته موجات التحرر الأولى، حيث الجسد النسائي وانكشافه معيار أول. أما الزمن الحالي، فزمن الهويات الدينية والعرقية والعشائرية والجنسية وكل الانتماءات التي يعاد تشكيلها وما ينتج منها من خيارات فردية قسرية او طوعية. وصحيح انه من غير المنصف ولا الواقعي وضع من يملك سلطة التكفير وهدر الدم مع من لا يملك الا صوته او رأيه، إلا ان رفع النقاش العام الى مصاف الدفاع عن حق الاختلاف، والبحث عن سبل ترجمة ذلك في سياسات تصوغ حياة الناس في اوطانهم وتضمن حقهم ذاك، يقع في شكل أساسي على عاتق الأخيرين دون الأولين.
لكن الخطر يكمن في ان تلك الغضبات والعصبيات، التي ظهرت نافرة في ثلاث حالات «فردية» وفي ثلاثة بلدان باختلاف تجاربها (ويمكن سرد عشرات الأمثلة الأقل شهرة) ليست حكراً على تنظيمات او جماعات متطرفة يمكن عزلها، بل باتت اقرب الى السائد من الرأي العام والشائع من السلوك الذي تطبّع معه المجتمع وتكيّف. انها ذلك المزاج الشعبي الذي يقال انه «متدين بالفطرة» والرافض لكل ما عداه، فلا يرى في المايوه او الموسيقى إلا ترجمة ملموسة لنظام سياسي لفظه. تماماً كما لا يرى غير المتدين في حجاب لاعبة كرة سلة إلا انعكاساً لـ «تطرف» يمقته.
وعليه، تبلغ التشوهات مبلغاً يضع الأخلاق العامة في مواجهة يومية مع أخلاق الجماعة، وتنزع ردود الفعل الإنساني (البشري) عن اي قضية، لتسبغ عليها معايير ضيقة من باب من لـــيس معي فهو ضدي. ويبدو إذ ذاك الاعتراض البديهي على السائد فعل بطولة يتيحه كرم الأخلاق ورحابة الصدر (الأردن) أو فعل بطولة مقابل (سورية ومصر) وليس المجرى الطبيعي للأمور.
وتفتح تلك القضايا الثلاث ليس على ازمات حكم فحسب، بل على مسائل اعمق وأشمل كالانتماء والهوية والرغبة الفعلية في بلدان يسودها القانون مقابل الأحكام الاجتماعية المطلقة، وغير ذلك الكثير مما يمنع تشكل «هويات وطنية» تقر بالاختلافات ولا تطمسها، وتنتج إجماعاً حقيقياً لا يفرضه فرضاً قمع سياسي.