كانت البطالة بنسبتها المتزايدة والتي تعدت 14.3% ،من أولى المشكلات التي حاولت حكومة هاني الملقي أن تتناولها . وإذا كان التدريب والتأهيل هو أحد الأركان الهامة لمواجهة البطالة، فإن تحفيز المشاريع القائمة وتطويرها ،والاستثمار في المشاريع الإنتاجية الجديدة، وخلق فرص العمل الحقيقية، هي الطريق الوحيد للمواجهة،و لتقليص مساحات الفقر،و تغيير حالة الإحباط لدى الشباب .وبدون ذلك فإن البطالة ستتفاقم سنة بعد سنة، وتتحول من فئة إلى أخرى، كما هي الآن بين الشباب الجامعيين، وقد تعدت نسبة 30% .
والملفت للنظر ،أنه ومنذ سنوات ،هناك عشرات و مئات بل و آلاف الشركات والمصانع، صغيرة ومتوسطة وكبيرة، فردية و مساهمة خاصة، و عامة، قد تعثرت في مسيرتها لاسباب مختلفة، بينما المؤسسات الرسمية تنتظر أو تتفرج، وكأنه لا يعنيها الآمر أبداً. وقد تعمق التعثر حتى أصبح ظاهرة،و ليس حالة فردية هنا و هناك. فبعض الشركات تضاءل حجم العمل فيها،و بعضها لا يحقق من الأرباح إلا ما يغطي مكافآت و رواتب جزء من الموظفين، و بعضها تراكمت عليها الديون بسبب سوء أو ضعف الإدارة،أو إنسداد اسواق التصدير، وبعضها أغلق أبوابه وسرًح ما لديه من عمال، و غيرذلك الكثير.
وهذا “من منظور إدارة الدولة، مؤشرخطير على غياب أو ضبابية مفهوم الثروة الوطنية ومتطلبات تنمية الإقتصاد لدى المؤسسة الرسمية و الموظف العام ،و غياب آليات القياس و الإنذار عند الحكومة… متى تتدخل ،و متى تبقى بعيدة.”.صحيح إن ملكيات هذه الشركات والمصانع كل بمفردها، تعود إلى أشخاص، أو مجموعات من المساهمين، وهي ملكية خاصة و مالكوها مسؤولون عنها. الا أنها بمجموعها تمثل جزء أساسياً من الثروة الوطنية وجزء رئيسياً في آلية إنشاء فرص العمل للمواطنين وللاستقرار الاجتماعي.ألأمر الذي يستدعي تدخل الدولة.ألم تتدخل الدولة الأمريكية في إصلاح الأزمة المالية عام 2008؟ علما بأن الشركات المتضررة كانت للأفراد و لمساهمين و ليست للحكومة؟ ومن هذا المنظور لا تستطيع الحكومة أن تبقى على الحياد ،وفي نفس الوقت تتحدث عن إجتذاب المستثمرين . من هو المستثمر الذي يتشجع لاستثمار أمواله وإقامة مصنع أو فندق أو مزرعة حين يرى المصانع الوطنية القائمة والفنادق والمزارع متعثرة ومهددة بالإغلاق والإفلاس ؟ ما هو موقف المستثمر الجديد حين يقرأ بالصحف اليومية عن آلاف المصانع المتوقفة، و أخرى يجري “تفكيك ماكينتها وتستعد للرحيل؟ أن المستثمر الجديد وطنياً كان او أجنبياً يبحث عن بيئة صحية نشطة مزدهرة ، مطمئنة حيوية ،وليس بيئة استثمارية قلقة ،متراجعة.
الشركات الصغيرة والمتوسطة تشكل أكثر من 95% من اجمالي عدد الشركات في البلاد ،وتوظف أكثر من 50% من القوى العاملة. ومع هذا فهي تعاني من المصاعب الشيء الكثير ،بسبب ضعف التمويل وضعف الإدارة وغياب خطة اقتصادية وطنية يمكن التماهي معها وضعف الحاكمية والتعقيدات الإدارية الرسمية، وغياب المشورة التكنولوجية المتخصصة بشكل خاص في المحافظات . إضافة إلى فتح باب الاستيراد على مصراعيه من جميع اطراف المعمورة :ابتداء من حبة الثوم من الصين و الدجاجة من الأرجنتين، وانتهاء بالطائرة من فرنسا أو الولايات المتحدة . أي قدرة على التنافس ستكون متاحة للمنتج المحلي ؟ ان كلفة السياحة في بلادنا ضعف كلفة السياحة في مصر أو تركيا أو قبرص . الا يلفت هذا انتباه المؤسسة الرسمية؟ . لقد باعت حكومة سابقة بنك الإنماء الصناعي منذ سنوات، ولم تنشئ بديلاً عنه حتى اليوم. وفي ظل الأزمة المالية أصبح تمويل المشاريع والشركات الصغيرة و المزارع مشكلة معقدة بسبب عزوف البنوك عن تمويل هذه الأعمال نظرا لارتفاع درجة المخاطرة أو صعوبة تقديم الضمانات، وراحت البنوك تفضل تمويل المؤسسات الرسمية و الكبيرة .
صحيح ان جزءا لا يستهان به من الأخطاء والمشكلات يعود إلى مالكي المصانع والشركات و المزارع والى اداراتها ،ولكن “حين تصبح المشكلة عامة ومتزايدة لا يجوز حينئذ للحكومة ان تبقى خارج المعمعة”. لقد مرت بلدان كثيرة بهذه الحالة واستطاعت الخروج من الأزمة بعد عدة اجراءات متكاملة و متزامنة ، لعل من أهمها :
أولاً : أن تعقد الحكومة مع البنوك اتفاقيات لتسهيل تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة والتخفيف من قيود الضمانات المتشددة التي تطلبها . ثانياً : التوسع في البنوك وبيوت التمويل المتخصصة بما فيها بنوك الإنماء الصناعي والزراعي والتي تعطي تمويلات بفوائد مخفضة تتحمل الحكومة جزء منها لفترات محددة . ثالثاً : وضع حلول للشركات المتعثرة والمصانع والمرافق المهددة بالإغلاق من خلال لجان متخصصة مشتركة ما بين الحكومة وما بين غرف الصناعة والتجارة والزراعة والاتحادات النوعية والبنوك وانشاء “هيئة الانقاذ والتسوية” لتتناول التفاصيل والحلول اللازمة لها . رابعاً : إنشاء معاهد مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص في المحافظات لتقدم التدريب والتأهيل اللازم للمشاريع و للشركات المتعثرة و الجديدة برسوم رمزية من خلال دورات متواصلة في الإدارة والمحاسبة المالية والتمويل والحاكمية والريادية وغير ذلك من متطلبات إدارة المشاريع.ويمكن استخدام مرافق قائمة مثل الجامعات او المدارس او المعاهد لهذه الغاية. خامساً : وضع مدونات سلوك للشركات تساعدها على الالتزام بالعمل وفق القواعد القانونية والعلمية والأخلاقية الصحيحة . سادساً انشاء معاهد تكنولوجية متخصصة لتقديم الخبرة والمشورة في التكنولوجيات المتقدمة وكيفية التعامل معها وذلك بهدف رفع القيمة المضافة للمنتجات.
وأخيراً فإن كلفة مثل هذه الإجراءات لن تتعدى 70 أو 100 مليون دينار سنوياً. ولكنها ستنقذ ثروات بالمليارات، و ستعيد إلى العمل من جديد عشرات الآلاف من العمال، وستفتح الابواب لمشاريع جديدة ،وتوسعات متواصلة ،وستساهم في خلق البيئة الاستثمارية الجاذبة التي يراها المستثمر الجديد بصورة عملية وليس يسمع عنها فلا يقتنع . وإذا لم تاخذ الحكومة موقفاً جاداً من هذه المسألة وإذا لم تكن مستعدة للاستثمار فيها بما يكفي من العلم والعقل و الجرأة و الوقت و المال ،فإن مستقبل الاعمال الصغيرة والمتوسطة لن يكون مزدهراً،و النمو الإقتصادي لن يكون كافيا لمواجهة متطلبات المرحلة القادمة.