غيّرت معركة حلب موازين المقايضة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، وجعلت السلطان والقيصر في حاجة متساوية الى بعضهما البعض بعدما كان أردوغان ضعيفاً وبوتين مستقوياً. اختلفت استدارة أردوغان في أعقاب تطورات المعركة في حلب، لذلك بدا بوتين أكثر حذراً بعد استقباله أردوغان في سان بيترسبورغ وأكثر رغبة في التدريجية مقارنة مع ضيفه الذي اكتسب فجأة جرأة الإقدام. الغوريللا التي تزن طنّاً الحاضرة الغائبة في لقاء الرجلين كانت الولايات المتحدة. ذلك أن لا بوتين مستعد للتضحية بكامل العلاقة التنسيقية مع الولايات المتحدة في سورية ولا بالتفاهمات الضمنية معها في أكثر من مكان، ولا أردوغان جاهز فعلاً لرمي موقعه المميز لدى الولايات المتحدة جانباً، مهما لعب أوراقه العلنية التصعيدية لتعزيز موقعه داخلياً في أعقاب محاولة الانقلاب عليه. كلاهما في حاجة الى الحفاظ على خصوصية علاقاته مع الولايات المتحدة، وكلاهما في حاجة الى الآخر لإنقاذه من ذلك المستنقع أو تلك الورطة التي تتربص له في سورية أو في تركيا. لدى أردوغان دور كبير في إنقاذ بوتين من مستنقع يتربص به في حلب، وهناك أصوات ترتفع داخل روسيا تطالب بوتين بوقف النزيف الروسي في سورية والتوصل إلى تفاهمات مع تركيا وإيران والسعودية وغيرها لتنسيق الجهود الديبلوماسية من أجل الحل السياسي بدلاً من الاستنزاف العسكري.
ولدى بوتين دور ينقذ أردوغان من الحصار الإعلامي العالمي عليه ويدعمه وهو يستأثر بالقرار والسلطة داخل تركيا، وذلك عبر البوابة الدولية والإقليمية. لكن المسألة السورية المهمة للقائدين لا تقتصر على الرجلين، بل إن كليهما مقيَّد ومسيَّر بآخرين. فأردوغان ليس من غيّر معايير معركة حلب بمفرده بل إنه نسَّق بالضرورة مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ومع دول خليجية. فالسلاح الذي وصل إلى المعارضة السورية أميركي وتمويله خليجي وممره تركي، وهكذا انقلبت المعادلة الميدانية في حلب. أما بوتين، فإن حساباته في حلب لم تنطبق أساساً على الحسابات الإيرانية هناك، إذ إن روسيا ليست جزءاً من طموحات إيران الإقليمية ذات الامتداد المذهبي. عندما كان الانتصار وارداً، غضّت موسكو النظر عن الاختلافات وركّزت على كسب معركة حلب. أما وأن الإمدادات العسكرية للمعارضة باتت واضحة بوضوح الجديد في القرار الأميركي، فإن للموضوع حديثاً آخر تفرضه الساحة العسكرية. الأوراق التفاوضية جزء من الحديث وكذلك المحاور المتضاربة والمتشابكة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين.
لنبدأ بالسيناريو الذي يقوم على قراءة التطورات الأخيرة الممتدة من حرب حلب إلى العلاقة الروسية – التركية الجديدة بتفاؤل وإيجابية. يقول المقتنعون بأن الأيام والأسابيع المقبلة ستكشف عن صفقة في شأن سورية، أن تلك الصفقة ستكون روسية – أميركية – تركية، وأن إيران أيضاً لن تعارضها لأنها بدورها تخشى الانزلاق بمفردها إلى ورطة حلب لتكون فيتنامها. أما إذا ارتأت طهران أن الصفقة لا تعجبها، فلن تتوقف موسكو عند رغبات إيران وإنما ستنظر إلى مصالحها في الدرجة الأولى، وفي طليعتها عدم السقوط في مستنقع عسكري في حلب لا سيما على ضوء وضوح الإصرار الغربي – العربي على قلب الموازين العسكرية، أو أقلّه إطالة معركة الاستنزاف.
ما قدّمه أردوغان إلى بوتين في إطار المسألة السورية هو إعلانه أن روسيا أساسية للحل السياسي في سورية. بذلك، أعطى الرئيس التركي روسيا مفتاح حل مشكلة سورية. وهذا تطوّر مهم إذا قيس بالمواقف السابقة التي قامت على استبعاد الآخر وإقصائه عن الحلول السياسية بسبب تباعد الرؤى والغايات. بكلام آخر، لعل أردوغان حمل ضمناً إلى بوتين أن القرار عائد إليه: إما أن يكون قائد الحل السياسي أو أن يكون المسؤول عن التورط العسكري وتبعاته.
تفاصيل الصفقة تكاد تكون بديهية تنطلق من استئناف المفاوضات مع بقاء بشار الأسد في السلطة لفترة موقتة بلا صلاحيات.
واضح أن كلاً من بوتين وأردوغان تعمّد إحاطة المفاوضات في شأن سورية بالسرية وعقداها في حضور كبار أركان الأجهزة الأمنية ووزارة الدفاع إلى جانب وزارة الخارجية. وللأمر أهمية ميدانية وليس فقط تجميلية. ما يقول الطرفان أنهما يلتقيان حول عدم تقسيم سورية، فتركيا تخشى التقسيم خوفاً من بذور نشوء دولة كردية، وروسيا تريد سورية بنظام وجيش كحليف استراتيجي تمون عليه. يلتقيان حول محاربة «داعش» لكنهما يختلفان في شأن تعريف من هي المعارضة التي تقاتل كي تكون طرفاً في التسوية السياسية وتلك التي تنتمي إلى منظمات إرهابية.
كلاهما يتفاهم على دور إيران في أية تفاهمات مستقبلية وتسويات في الشأن السورية ولكل منهما تحفظاته الخاصة به على المشاريع الإيرانية لسورية في إطار التوسع الإقليمي الممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان.
كل منهما يريد علاقات، وله علاقات جيدة مع إسرائيل، وهو حريص على أن تكون راضية عما يقوم به داخل سورية وفي المنطقة ككل. بل إن هناك من يتحدث عن نوع من «محور» تنسيق ثلاثي روسي – تركي – إسرائيلي لا يتعارض مع «محور» ثلاثي آخر من التفاهمات قد يبرز في سورية ويضم روسيا وتركيا وإيران. فسورية باتت محطة المناقصات والصفقات.
العنصر الخليجي ليس غائباً عن الساحة السورية، السياسية والميدانية، وما يبرز من «محاور» عابرة أو دائمة للتنسيق أو التفاهم يشمل حالياً تلاقياً أميركياً – خليجياً – أوروبياً على دعم المعارضة السورية على نسق «قوات سورية الديموقرطية» وغيرها لمحاربة «داعش» ولإيقاف زحف النظام في دمشق وحلفائه على حلب ومدن أخرى باتت مصيرية لكل الأطراف. روسيا حريصة أقله شكلياً في العلاقة الروسية – الخليجية على التواصل مع دول مجلس التعاون الخليجي وعبر منتدى التعاون العربي – الروسي الذي يبدو أنه سينعقد في دولة الإمارات السنة المقبلة بعدما كان انعقد في موسكو هذه السنة. لكن المصادر المطلعة في روسيا تقول أن التنسيق يكاد يكون معدوماً بين موسكو والعواصم الخليجية، وأن موسكو غير مرتاحة للموقف الأميركي – الخليجي – الأوروبي وتصعيده الميداني والسياسي وتتهمه بتجميد العملية السياسية.
المصادر الخليجية تقول أن أردوغان ذهب للقاء بوتين مُحصَّناً بعزم خليجي وتحوّل أميركي في معركة حلب، ولذلك كان واثقاً من نفسه. فلقد أدرك أردوغان أن معركة حلب أضعفت بوتين وسلبته بعض الأوراق التفاوضية. أدرك أنه يخاطب صديقه اللدود من موقع قوة ويتحدث من منطلق أن حلب مدينة سنّية كبرى.
فلاديمير بوتين يفهم لغة الواقعية ويتقن لغة البراغماتية. لذلك أدرك بنفسه أن معركة حلب أضعفته، وأن مَن حوله لا يريد التورط في حرب مع السُنَّة في عقر دارهم لتصبح موضع انتقام واسع. بوتين يقرأ جيّداً تفاصيل أهمية العلاقة التي أقامها مع الولايات المتحدة والشراكة التي توصل إليها معها في سورية. فهذه مسائل يُؤخذ حسابها في العلاقات الثنائية وفي المعادلات الدولية.
ربما يجد فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في حلب موقعاً لحلحلة الوضع في سورية بتفاهمات إقليمية ودولية تفيدهما، فتنقذ بوتين من ورطة سورية وأردوغان من ورطة داخلية في تركيا. ربما يلعبان أوراقهما بحذر ويستفيدان من آفاق المساومة بلا إغراءات الانتقام والابتزاز.
أما إذا عاند بوتين في سورية وقرر الرهان على كسب معركة حلب بشراكة إيرانية لتثبيت النظام فوق الركام من دون تنازلات، فإن الثمن سيكون غالياً لأن ذلك الخيار يدفن الحل السياسي ويجعل الحل العسكري رمالاً متحركة لأقدام الروس وحلفائهم على السواء.
إذا عاند أردوغان وقرر أن في وسعه ابتزاز الولايات المتحدة عبر الممرات إلى المعارضة وابتزاز أوروبا عبر تدفق اللاجئين إليها، فإنه يكون كمَن يطلق النار على قدميه. فهو ما زال هشاً مهما نفخت معركة حلب بريشه واختال أمام الطاووس المكسور الجناح في سان بيترسبورغ. فكل المعادلات في سورية موقتة وكل المساومات عابرة وكل الصفقات تُطبَخ على أشلاء السوريين الأبرياء.
اعتقد بعض الروس، وفق استقرائهم للوضع، أن أردوغان مضطر للانكفاء إقليمياً كي يعزز أوضاعه الداخلية، وبالتالي اعتقدوا أنه سيكون أكثر جاهزية لتنازلات خارجية في مسألة سورية وغيرها. أتت عليهم المفاجأة في معركة حلب فوصل أردوغان للقاء بوتين بعيداً من الانكفاء الإقليمي وأقل جاهزية للموافقة على الشروط الروسية.
هذا لا يختزل حاجة أردوغان إلى بوتين وإصراره على صياغة علاقة جديدة نوعية بين البلدين واستعداده لأكثر من الاعتذار الذي تقدم به. فهو يريد أن يمتلك الأوراق الانتقامية التي يحتاجها في تموضعه مع الأصدقاء الغربيين القدماء الذين يتهمهم بالتآمر عليه، وروسيا تبقى بوابته الرئيسية للثأر عند الاضطرار.