في تركيا تتزاحم الخلافيات والانقلابات عبر عقود طويلة وتأخذ اشكالاً وصيغاً متعددة تغلف مضموناً واحداً وهو الهوية الذي تدفقت تداعياتها منذ الدستور الأول الذي أقر في عام 1923، والذي أعطى الكمالية مفهومها العلماني، هذا الصراع والذي دار حول مفهوم محدد: هل تركيا أوروبية أم مشرقية، وهل هي علمانية أم اسلامية، وهل هي ابنة مستقبلها أم امتداد لموروثها الطويل الذي تجلى بالخلافة العثمانية.
قمعت الأتاتوركية العثمانية التاريخ بل واللغة وغلفت الهوية المشرقية بقشرة غربية ولكنها طالت النخب وصفوة المجتمع ولم تصل ابداً الى قاعهوالفئات التي تربت في التكايا وتلقت مفاهيمها ورسمت هويتها الراسخة في اعماقها ومارست شكلاً من اشكال التقية الهوياتية فأظهرت علمانياتها ولكنها ابطنت في اعماق وجدانها مشرقيتها واسلاميتها، وكان صراع على السطح بين العسكر والسياسة يعكس هذه القناعة ولكن على استحياء ودون الافصاح عنها، فبرزت نخبة الجيش تريد الدولة ومكوناتها للجيش حتى تستمر في ممارسة هيمنتها على المجتمع كي لا يخرج من حالة التقية الهوياتية هذه، وتفرض عليه الشكل المزيف لهوية لم يعترف بها المجتمع ابداً (اوروبا والكمالية)، بينما النخبة السياسية وهي الطرف الأخر من المعادلة إما انها رهنت نفسها ومصالحها وربطته مع الجيش أو أنها تبنت مفهوماً تراثياً لم تبح عنه ابداً، واستمرت تمارس السياسة بوجه هلامي يحاول ارضاء الطرفين، واعني هنا التيار الاسلامي في تركيا والذي رسم لنفسه دوراً يعبر عن رفض تركيا لنزع جذورها المشرقية وتاريخها لتستبدله بالقبعة الأوروبية.
ومن هنا يمكن تفسير الرفض الشعبي الأخير للانقلاب العسكري في تركيا على أنه رفض اكيد لهذا النزع والسلخ لتركيا عن ذاتها التي توارثتها عبر قرون بغثها وسمينها وهي تعلن بذلك فشلاً ذريعاً لتركيا الكمالية وتؤكد ايضاً أن مستقبل تركيا مرهوناً بالشرق وبالتراث وربما انهت تركيا الأوروبية.
فهل يا ترى حُسم الصراع أم أنه فتح نفسه على كل الاحتمالات؟؟؟