لم تعد العشائرية والقبلية قائمة في الأردن؛ بمعنى النظام الاقتصادي الاجتماعي. ولم يتبق من العشائرية سوى روابط قرابية معنوية وعاطفية، وقليل من التقاليد الاجتماعية المؤسسية، مثل الإجراءات المتبعة في حالات الجرائم والحوادث، وفي المناسبات الاجتماعية مثل الزواج والوفاة. فلم تعد العشيرة مؤسسة تملك مواردها أو ذات معنى قانوني (شخصية اعتبارية)، ولم تعد أيضا تقدم الحماية القانونية والاجتماعية التي كانت تقدمها لأبنائها، سوى تضامن معنوي غير ملزم لأحد.
والحال أن العشائرية تعرضت منذ قيام الدولة الحديثة لسلسلة من التحولات جعلتها تختفي أو تنحسر، أو تختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه قبل قيام الدولة وما صحبها من تحولات اقتصادية واجتماعية. فقد أصبحت الرابطة القانونية وسيادة الدولة بديلا مؤسسيا من القبيلة والعشيرة. وبالتحول إلى الوظائف والأعمال في الأسواق، لم يعد المواطنون مرتبطين بعشائرهم لأجل العمل والرزق أو الحماية. وعندما بدأ قانون ملكية الأراضي على أساس فردي، لم تعد العشيرة تملك الموارد الأساسية التي كانت تديرها وتوزعها على أبنائها، وبدأت البلديات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والنقابات المهنية والعمالية تشكل إطارا جامعا للمواطنين بديلا من الروابط القرابية. ولم تعد القيادات العشائرية والقبلية التقليدية قائمة إلا في حدود ضئيلة لا يكاد يلاحظها أحد من أبناء العشائر؛ فالقيادة الاجتماعية والتأثيرية اليوم مستمدة من الوظائف والأعمال والمكتسبات الشخصية الفردية، وأصبح القادة المؤثرون في المجتمعات العشائرية وفي البلدات هم أصحاب الوظائف والمهن والأعمال والمال والمكتسبات والفرص التي حصلوا عليها بجهودهم المستقلة عن العشيرة، كالعمل والوظائف والتعليم والثراء.
والحال أن مصطلح “العشائرية” لم يعد معناه اليوم كما كان عليه قبل نشوء الدولة الحديثة والتحولات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلاد، فهو اليوم روابط قرابية غير مؤسسية وغير ملزمة لأحد. والعشيرة أيضا أصبحت مؤسسة معنوية لم تعد في معناها أو أهميتها كما هي في الفكرة السائدة، وبخاصة لدى غير الأردنيين من الزوار والصحفيين. ويبدو أنه يجري تقديم خاطئ أو مزور للذات، جهلا أو بسوء نية أو عجزا عن إدراك التحولات العميقة التي جرت وتجري في بنية المجتمعات والموارد.
كذلك، لم يعد يوجد في الأردن بدو ولا فلاحون بالمعنى العلمي التاريخي للمصطلحين؛ أي إن البداوة والفلاحة لم تعودا قائمتين في الأردن كمنظومات اقتصادية اجتماعية وأسلوب عيش وموارد، وتقترب نسبة “الحضرية” في الأردن من مائة في المائة؛ بمعنى النظام الاقتصادي والمعيشي.
لكن الأردنيين في مغادرتهم للعشائرية والبداوة والفلاحة، لم يتحولوا إلى مجتمعات مدينية. فما لدينا اليوم هو مدن بلا تمدن، وتريف اجتماعي بلا زراعة ولا مجتمعات زراعية، وبداوة بلا بدو ولا مراعٍ. ليست البيئة الزراعية والرعوية اليوم سوى ساحات وفضاءات وأراضٍ زراعية للشركات أو الأفراد الذين يديرون أعمالهم الزراعية بالطريقة الاستثمارية الحضرية.
الأردنيون اليوم سكان وليسوا مجتمعات؛ ليسوا مدنيين ولا فلاحين ولا بدو، ولا يملكون ما يجب أن تملكه المجتمعات من أدوات ومؤسسات لتنظيم أنفسهم ومواردهم، ولا يملكون ولاية على المؤسسات الاجتماعية والثقافية التي يجب أن تعبر عنهم، ولا القيادات الاجتماعية المستمدة من تنظيم مجتمعي حقيقي ومتماسك. فقد تسلطت الحكومات والشركات على المجتمعات والبلديات، ولم تعد المجتمعات تملك مؤسساتها ومواردها وتنظيماتها الاجتماعية المستقلة. أما النقابات ومنظمات المجتمع المدني، فيغلب عليها عموما أنها تابع أو حليف للنخب السياسية والاقتصادية وأرباب الأعمال والشركات.
القبيلة الوحيدة المنظمة في الأردن والتي تعمل على أساس قبلي وتملك مواردها ومؤسساتها ورؤيتها لعلاقتها بالدولة ومشروعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتماسك، هي قبيلة “الأوليغارشيا” أو النخبة السياسية والاقتصادية المهيمنة والمحتكرة لمعظم الفرص والموارد. وهي ما تزال المجموعة نفسها منذ تشكل الدولة الحديثة، لا يشاركها أو يتسرب إليها أحد إلا بقرار قبلي مدروس، أو للأبناء والأحفاد والأتباع، حتى لو كانوا فاشلين أو لا يستحقون المواقع التي أتيحت لهم.